خواطر حول كتاب إتمام النعمة بتصحيح حديث علي باب دار الحكمة
الكاتب هو حسن الحسيني الشيرازي وموضوع الكتاب اثبات صحة رواية علي باب دار الحكمة من خلال كتب الحديث السنية وقد ابتدأ بذكر عمله فى البحث حيث قال:
"أما بعد: فهذا جزء سميته «إتمام النعمة بتصحيح حديث: علي باب دار الحكمة» جمعت فيه طرق هذا الحديث وقررت صحته، وزيفت دعوى من زعم وضعه أو نكارته ـ كما اتفق لبعض المقصرين والقاصرين، من الغابرين والمعاصرين ـ."
وتناول طرق الرواية الثلاث حيث قال:
"اعلم ـ رحمك الله ـ أن هذا الحديث رواه أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب ، وابن عباس، وجابر بن عبدالله الانصاري رضي الله عنهما فأما حديث علي فقد ورد عنه من طريق الصنابحي، وعبيد الله ابن أبي رافع، والشعبي."
وابتدأ بطرق رواية الحديث عن على حيث قال :
"حديث علي طريق الصنابحي:
1 ـ فأما طريق الصنابحي، فقد أخرجه الترمذي في سننه وابن جرير في تهذيب الآثار عن إسماعيل بن موسى، قال: حدثنا محمد بن عمر الرومي، حدثنا شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي، عن علي قال: قال رسول الله (ص): أنا دار الحكمة وعلي بابها.
قال ابن جرير: هذا خبر صحيح سنده.
قلت:
والحق كما قال، فإن هذا الحديث بمفرده على شرط الصحيح، ورجاله كلهم ثقات.
* أما إسماعيل بن موسى الفزاري، فقد روى عنه البخاري في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وجماعة.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: صدوق.
وقال مطين: كان صدوقا.
وقال النسائي: ليس به بأس.
وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال أبو داود: صدوق في الحديث، وكان يتشيع.
وقال ابن عدي: إنما أنكروا عليه الغلو في التشيع.
على أنه لم ينفرد بهذا الحديث عن ابن الرومي بل تابعه عليه أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري.
وقد أخرج متابعته هذه ابن بطة في الابانة، قال: حدثنا أبو علي محمد بن أحمد الصواف، حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري، حدثنا محمد بن عمر الرومي، حدثنا شريك به وأخرجها العاصمي أيضا في زين الفتى، قال: أخبرنا محمد بن أبي زكريا، قال: أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن أحمد الواعظ ـ قراءة عليه بنيسابور ـ، قال: أخبرنا أبو بكر هلال بن محمد بالبصرة، قال: حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري، قال: حدثنا محمد بن عمر بن عبد الله، قال: حدثنا شريك، عن سلمة، عن الصنابحي، عن علي ـ وذكر الحديث ـ.
وأخرجها الانماطي في تاريخ الصحابة، قال: حدثنا أبو بكر بن خلاد وفاروق الخطابي، قالا: أخبرنا أبو مسلم الكجي عن محمد بن عمر الرومي به.
وقال الحافظ صلاح الدين العلائي: تابعه ـ يعني الفزاري ـ أبو مسلم الكجي وغيره على روايته عن محمد بن عمر الرومي.
* وأما محمد بن عمر بن عبد الله الرومي، فقد روى عنه البخاري في غير الجامع، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: صدوق قديم، روى عن شريك حديثا منكرا
قلت:
يعني حديث الباب، وإنما أنكره ـ كما أنكره البخاري ـ جريا على قاعدة النواصب في إنكار فضائل أمير المؤمنين ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم إن تصحيح ابن جرير لهذا الحديث دال على توثيقه لابن الرومي ـ كما لا يخفى فقول أبي زرعة فيه: شيخ فيه لين، وقول أبي داود: محمد بن الرومي ضعيف، وقول ابن حبان ـ على ما حكاه عنه ابن الجوزي ـ: كان يأتي عن الثقات بما ليس من أحاديثهم، لا يجوز الاحتجاج به بحال؛ ليس بشيء.
لان ابن حبان قد ذكره في الثقات كما مر، مضافا إلى أنه من المتعنتين المتشددين في الجرح، كما بينا ذلك في الابادة، وغاية ما يمكن للخصم أن يدعيه أنه لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، فأما إذا توبع، فإن حديثه يكون ثابتا محفوظا، وسيأتي إن شاء الله بيان من تابعه على هذا الحديث.
وأما قول أبي زرعة؛ فتليين مبهم، ولا ينزل حديثه عن درجة الصحيح، وتضعيف أبي داود إياه جرح غير مفسر، فيرد عليه ولا كرامة.
بل قد دل قول الذهبي في ميزان الاعتدال ـ بعد إيراده الحديث من طريقه ـ: ما أدري من وضعه؟ على عدم اعتداده بتضعيف أبي داود له ـ مع ذكره آنفا ـ إذ لو كان في ابن الرومي أدنى غمز لما تقاعد عن إلصاق الحديث به.
ثم يقال للذهبي: أليس من خبث السريرة وعمى البصيرة الطعن في هذا الحديث، وأنت تذعن لجودة سنده ونقاوته؟!
بل ما لك تحتار فلا تدري من وضعه، لا دريت ولا ائتليت، وما أحق أن ينشد فيك قول أبي الطيب:
سميت بالذهبي اليوم تسمية * مشتقة من ذهاب العقل لا الذهب
ولعمر الله إن أحدا لم يضع هذا الحديث، بل قد نطق به الصادق المصدوق (ص) (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) بيد أن معشر الناصبة ـ قبحهم الله وأخزاهم ـ لا يطيقون صبرا على سماع هذه المنقبة الشريفة وأضرابها، فيقدمون على ردها دفعا بالصدر (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين).
هذا، ومن الفضول اعتراض بعضهم على قول أبي حاتم في ابن الرومي: (صدوق)، بقوله: لعله حكم عليه بما ظهر له من حاله ولم يتبين ضعفه بما وقع له من مروياته.
فيقال له: يا هذا! إن أبا حاتم من أئمة الجرح والتعديل، وبينك وبينه من البون ألف ألف ميل، فكيف تبين لك ما لم يتبين له؟!
وهو الذي يقول الذهبي في شأن توثيقاته: إذا وثق أبو حاتم رجلا فتمسك بقوله، فإنه لا يوثق إلا رجلا صحيح الحديث.
هذا كله مضافا إلى عدم تفرد ابن الرومي بحديث الباب، بل قد تابعه عليه محمد بن عبد الله الرقاشي، وهو ثقة ثبت احتج به الشيخان والنسائي وابن ماجة، وقد أخرج متابعته عبد الله بن أحمد بن حنبل في زياداته على كتاب الفضائل لابيه، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الكجي، عن محمد بن عبد الله الرقاشي، قال: حدثنا شريك بن عبد الله، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي عن علي ، مرفوعا: أنا دار الحكمة وعلي بابها.
وهذا إسناد متصل لا مطعن فيه لاحد ولا مغمز؛ لصحته وثقة نقلته.
وتابعه أيضا محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، وكان ثقة
صدوقا، أخرج متابعته ابن المغازلي في المناقب، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن عثمان بن الفرج، قال: أخبرنا محمد بن المظفر بن موسى بن عيسى الحافظ ـ إجازة ـ، حدثنا الباغندي محمد بن محمد بن سليمان، حدثنا شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد، عن الصنابحي، عن علي ، عن النبي (ص)، قال: أنا دار الحكمة وعلي بابها، فمن أراد الحكمة فليأتها.
قلت:
فقول الترمذي فى العلل الكبير: إن هذا الحديث لم يرو عن أحد من الثقات من أصحاب شريك؛ ناشى عن قصر في الباع، وقصور في الاطلاع.
وكذا دعوى المعلمي، حيث زعم أن هذا الخبر غير ثابت عن شريك، وأن قول الترمذي في سننه: روى بعضهم هذا الحديث عن شريك.. إلى آخره، لا ينفي تفرد ابن الرومي ـ خلافا لما ظنه العلائي ـ لان كلمة (بعضهم) تصدق بمن لا يعتد بمتابعته، إذ قد عرفت أن الحديث ثابت عن شريك بلا نزاع، وأن (بعضهم) ممن يعتد بمتابعته، بل ممن يحتج به بانفراده على رغم أنف المعلمي ومن تبعه.
وممن تابع ابن الرومي أيضا على حديثه هذا عن شريك: عبد الحميد ابن بحر البصري، وقد أخرج متابعته أبو نعيم في الحلية، قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الجرجاني، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا عبد الحميد بن بحر، حدثنا شريك، عن سلمة بن كهيل، عن الصنابحي، عن علي ، قال: قال رسول الله (ص): أنا دار الحكمة وعلي بابها.
قال الحافظ الكنجي ـ بعد إخراجه الحديث من هذا الطريق ـ: هذا حديث حسن عال.
وقد تبين بهذا بطلان دعوى بعض المتكلفين للحديث انحصار رواية شريك برواية محمد بن عمر الرومي وعبد الحميد بن بحر البصري عنه، إذ قد عرفت أن الرقاشي والباغندي أيضا قد رويا هذا الحديث عنه.
* وأما شريك بن عبد الله النخعي الكوفي، فقد وثقه ابن معين وأبو داود وإبراهيم الحربي، وقال العجلي: كوفي ثقة، وكان حسن الحديث، وقال يعقوب بن شيبة: شريك صدوق ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا، كثير الحديث.
وقال الحافظ العلائي: شريك احتج به مسلم وعلق له البخاري، ووثقه يحيى بن معين والعجلي، وزاد: حسن الحديث، وقال عيسى بن يونس: ما رأيت أحدا قط أورع في علمه من شريك، قال العلائي: فعلى هذا يكون تفرده حسنا. انتهى.
وقد تشبث بعض الاغمار للطعن في حديث شريك هذا بأمور:
الاول: اختلاط شريك وسوء حفظه.
وجوابه: أن ذلك إنما عرض له في آخر أمره، فسماع المتقدمين منه ليس فيه تخليط كما قال ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: من سمع منه قديما فحديثه صحيح. انتهى.
ولا نعلم أحدا ادعى أن ابن الرومي سمع من شريك بعد اختلاطه، فالاصل عدمه، والله أعلم.
على أن الغالب على حديث شريك الصحة والاستواء ـ كما قال ابن عدي ـ والاختلاط إنما وقع في بعض حديثه، بل لو كان قد انفرد بحديث الباب لما كان ذلك بضارنا شيئا، إذ ليس انفراد الراوي وشذوذه ـ إذا كان ثقة ـ من أسباب ضعفه ولا ضعف ما يرويه ـ كما تقرر في محله ـ بل قد قرر الحافظ العلائي أن تفرد شريك، حسن ـ كما مر آنفا ـ.
قلت:
وربما صحح الترمذي حديثه أو حسنه إذا انفرد، فكيف إذا توبع في حديثه عن سلمة بن كهيل، وقد تابعه على هذا الحديث يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي
فإن قيل:
إن يحيى بن سلمة بن كهيل ضعيف.
قلنا:
هو من رجال الترمذي، وتضعيفه في الحديث لا يضره، لانه إن ثبت ذلك في حقه كان ضعفه محتملا، غير موجب لترك حديثه، فيجوز إيراد حديثه في المتابعات، على أن ذلك معارض بتوثيقه، فقد ذكره ابن حبان في الثقات وقواه الحاكم ـ كما في الميزان ـ.
وقال في المستدرك: هؤلاء الذين ذكرتهم في هذا الكتاب ثبت عندي حديثهم، لاني لا أستحل الجرح إلا مبينا، ولا أجيزه تقليدا.
قال: والذي أختاره لطالب العلم أن يكتب حديث هؤلاء أصلا. انتهى.
فالذي يظهر من كلام الحاكم أنه لم يعول على ما قيل في يحيى بن سلمة، فيكون حديثه ثابتا عنده، بل قد صحح حديثه في المستدرك، وقال: ترك حديث يحيى بن سلمة، عن أبيه من المحالات التي يردها العقل، فإنه لاخلاف أنه من أهل الصنعة، فلا ينكر لابيه أن يخصه بأحاديث يتفرد بها عنه.
وقد صحح حديثه الذهبي أيضا في تلخيص المستدرك، وقال: ترك حديث يحيى بن سلمة من المحالات التي يردها العقل..
قلت:
وفي هذا الكلام شهادة بثقته وصحة حديثه إذا انفرد عن أبيه، فكيف إذا توبع على حديثه من طريق صحيح ـ كما هنا ـ؟! فتنبه.
وقد بان لك ـ بما ذكرنا ـ ما في قول الترمذي في العلل الكبير: لا نعرف هذا من حديث سلمة بن كهيل من غير حديث شريك؛ من الغفلة والذهول.
هذا، مضافا إلى ما قرروه في علم الحديث من تصحيح حديث الراوي ـ الذي ليس له متابعون ـ بالشواهد المعنوية، وجروا على ذلك في تصحيح أحاديث في الصحيحين والموطأ ومسند أحمد وغيرها، وقد صحح ابن عبد البر وابن سيد الناس حديث عبد الكريم بن أبي المخارق المجمع على ضعفه لوجود الشواهد المعنوية لحديثه.
وكذلك حديث الباب، فإن له شواهد كثيرة يجزم الواقف عليها بصحته، ودونك حديث ابن مسعود قال: كنت عند النبي (ص) فسئل عن علي ، فقال: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء، والناس جزءا واحدا. رواه أبو نعيم في الحلية.
الثاني: تدليس شريك.
والطعن في سند الحديث من هذا الوجه جهد العاجز، فلو اعتبر هذا وأخذ به لوجب طرح حديث الاعمش وسفيان الثوري وهشيم وغيرهم من أئمة أهل الحديث وحفاظه، بل قد قال شعبة: ما رأيت أحدا من أصحاب الحديث إلا يدلس، إلا ابن عون وعمرو بن مرة.
الثالث: تشيع شريك.
وجواب هذه الشبهة: أنها تهمة لا يعمل بها النقاد من أهل الحديث، وإنما هي نفثة مصدور ناصبي ضاق ذرعا بما ورد في علي ، فلم يجد طريقا لردها إلا بهذه الخرافة ـ كما قال شيخنا أبو اليسر جمال الدين عبد العزيز بن الصديق فسح الله تعالى في عمره ـ.
على أن هذه النسبة لم تثبت في حق شريك، بل قال معاوية بن صالح: سألت أحمد بن حنبل عنه؟
فقال: كان عاقلا صدوقا محدثا شديدا على أهل الريب والبدع.
وقال الساجي: كان ينسب إلى التشيع المفرط، وقد حكي عنه خلاف ذلك.
وقال يحيى بن معين: قال شريك: ليس يقدم عليا على أبي بكر وعمر أحد فيه خير.
وأين هذا من التشيع، فضلا عن الغلو والافراط؟!
وللنواصب في هذا الباب قاعدة بائدة وشبهة فاسدة، وهي رد رواية المبتدعة ـ بزعمهم ـ إذا رووا ما يؤيد مذهبهم، وقد بينا زيفها في الابادة
فمن شاء فليقف عليها، والله المستعان.
* وأما سلمة بن كهيل بن حصين الحضرمي الكوفي، فمتفق على توثيقه، وقد أخرج له الجماعة.
* وأما سويد بن غفلة الجعفي الكوفي، فقد احتج به الستة، وقال ابن معين والعجلي: ثقة.
* وأما عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، فهو ثقة من كبار التابعين احتج به الجماعة، ووثقه ابن سعد والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات.
وقد ثبت بما حققنا أن هذا الحديث بمفرده على شرط الصحيح كما حكم به ابن جرير، فإن رجاله كلهم موثقون ـ كما عرفت ـ بل لو فرض ضعفه أيضا، فإنه غير قادح لما تقرر عند أهل هذا الشأن: من أن الضعيف إذا تعددت طرقه وكثرت شواهده مع تباين مخارجها غلب الظن بصدق خبر المجموع وإن كان ذلك لا يحصل بخبر كل واحد على انفراده.
هذا، ولكن الترمذي قال ـ عقب إخراجه حديث الباب ـ: هذا حديث غريب منكر، وروى بعضهم هذا الحديث عن شريك ولم يذكروا فيه عن الصنابحي، ولا نعرف هذا الحديث عن أحد من الثقات غير شريك، وفي الباب عن ابن عباس. انتهى.
قلت:
هذا هو الذي وقفنا عليه من عبارة الترمذي في نسخ سننه المتداولة،ولكن في كون جميع ذلك من كلامه نظر أما قوله: «غريب» فالظاهر ـ والله أعلم ـ أنه من كلامه، إذ قد حكاه عنه جماعة من المتقدمين والمتأخرين كالمحب الطبري في الرياض النضرة، والبغوي في مصابيح السنة، والعلائي في النقد الصحيح، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح، وابن الاثير الجزري في أسنى المطالب، وابن كثير في النهاية، والمناوي في فيض القدير، وآخرون غيرهم
. لكنك خبير بأن الغريب يجامع الصحيح، كما هو الحال في أكثر الاحاديث الصحيحة.
وأما قوله: «منكر» فقد مر عن أبي حاتم أنه رمى حديث الباب بالنكارة، وقال أبو عيسى في العلل الكبير: سألت محمدا ـ يعني البخاري ـ عنه فلم يعرفه، وأنكر هذا الحديث.
قلت:
ما أنكر البخاري ولا غيره هذا الحديث إلا بناء على أصلهم الفاسد الذي أسسوه في إبطال كل ما ورد في فضل أمير المؤمنين علي ، أو أكثره، بالحكم على من روى شيئا منه بالتشيع والضعف والنكارة، أو رده بما يعارضه ويناقضه من الاحاديث الموضوعة، كما فعل الجوزجاني وغيره من ألداء النواصب ـ قبحهم الله وأخزاهم ـ.
وقال الحافظ أبو سعيد العلائي في النقد الصحيح: ليس هذا الحديث من الالفاظ المنكرة التي تأباها العقول، بل هو مثال قوله (ص): أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. وقد حسنه الترمذي وصححه غيره.
وقال الحافظ الكنجي في الكفاية ـ عقب هذا الحديث ـ: قد فسرت الحكمة بالسنة، لقوله عز وجل (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) يدل على ذلك صحة هذا التأويل، وقد قال رسول الله (ص): إن الله تعالى أنزل علي الكتاب ومثله معه، أراد بالكتاب القرآن، ومثله معه ما علمه الله تعالى من الحكمة، وبين له من الامر والنهي والحلال والحرام.
فالحكمة هي السنة، فلهذا قال (ص): أنا دار الحكمة وعلي بابها. انتهى.
وقال المناوي في فيض القدير في شرح حديث الترمذي: أي علي بن أبي طالب هو الباب الذي يدخل منه إلى الحكمة، فناهيك بهذه المرتبة ما أسناها، وهذه المنقبة ما أعلاها. انتهى.
هذا، والذي يشهد لعدم كون هذه اللفظة من كلام أبي عيسى الترمذي وإنما هي من زيادات بعض محرفي الكلم عن مواضعه أن البغوي أورد هذا الحديث في كتابه مصابيح السنة، وقد قال في أوله: وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه، وأعرضت عن ذكر ما كان منكرا أو موضوعا
فعلم من هذا أن لفظة «منكر» زيادة منكرة ليست من كلام الترمذي، وإلا لما كان هذا الحديث من شرط كتاب البغوي، بل حكى فيه عن أبي عيسى أنه قال: غريب، وزاد عليه هو قوله: إن إسناده مضطرب.
ويشهد لما ذكرنا أيضا أن الفيروزآبادي حكى عن الترمذي أنه قد حسن هذا الحديث.
وحكى المحب الطبري في ذخائر العقبى عن الترمذي أنه قال: حديث حسن، وفي الرياض النضرة: حسن غريب.
ثم إنك لو تأملت إسناد حديث الباب لوجدته على شرط الحسن عند الترمذي، فيترجح بذلك أن صاحب الجامع الصحيح قد حكم بحسنه.
قال في العلل الصغير: كل حديث يروى، لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا، ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن. انتهى.
فإن قال قائل:
إن الترمذي لا يعتمد على تصحيحه وتحسينه.
قيل له:
هذا فيما إذا تفرد بالتصحيح أو التحسين، أما إذا وافقه في ذلك غيره من أئمة الحديث فلا.
وستعرف إن شاء الله تعالى أن من الائمة من حكم بصحة هذا الحديث ومنهم من حسنه، والله أعلم.
وأما قول الترمذي: «روى بعضهم هذا الحديث عن شريك، ولم يذكروا فيه عن الصنابحي».
فقد أجاب عنه الحافظ صلاح الدين العلائي في النقد الصحيح: بأن سويد بن غفلة تابعي مخضرم، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسمع منهم، فيكون ذكر الصنابحي فيه من باب المزيد في متصل الاسانيد. انتهى.
ثم إن هذا التعليق من الترمذي لا يعارض حديثه المتصل الاسناد الذي أورده في أول الباب، لما علم بأن من عادته ـ غالبا ـ من تعقيب الاحاديث الصحيحة والحسنة بالاحاديث التي وقع فيها وقف أو إرسال، والاسانيد المعلقة لا محل لها عند أهل الحديث.
بل قد قرروا أن الحديث إذا رواه بعض الثقات الضابطين متصلا وبعضهم مرسلا، أو بعضهم موقوفا وبعضهم مرفوعا، أو وصله هو أو رفعه في وقت، وأرسله أو وقفه في وقت فالصحيح أن الحكم لمن وصله أو رفعه سواء كان المخالف له مثله أو أكثر وأحفظ، لانه زيادة ثقة وهي مقبولة، وهي طريقة الاصوليين والفقهاء والبخاري ومسلم ومحققي المحدثين، وصححه الخطيب البغدادي ـ كما قال النووي ـ
ومن هنا ظهر بطلان تعلق بعضهم بإعلال الدارقطني لحديث الباب حيث تكلم عليه في العلل؛ فقال: هو حديث يرويه سلمة بن كهيل، واختلف عنه فرواه شريك عن سلمة، عن الصنابحي، عن علي ، واختلف عن شريك فقيل: عنه، عن سلمة، عن رجل، عن الصنابحي، ورواه يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي ولم يسنده، قال: والحديث مضطرب غير ثابت، وسلمة لم يسمع من الصنابحي. انتهى.
فإنه لا مانع ـ من حيث الطبقة ـ أن يروي سلمة بن كهيل عن الصنابحي، فإن ثبت عدم سماعه منه ـ كما زعم الدارقطني ـ فإن المحذوف من سلسلة الاسناد هو سويد بن غفلة، كما أنه هو الذي ورد مبهما في الطريق الآخر الذي ساقه الدارقطني ـ كما علم من الاسانيد المتقدمة ـ فلا يعد ذلك اضطرابا في السند للعلم بالواسطة المحذوفة.
وقد تحصل من ذلك أن الحديث متصل الاسناد، وأن ما وقع فيه من الانقطاع والاضطراب الحادث فإنما هو من وهم بعض الرواة، وأن حكم الدارقطني باضطراب الحديث وعدم ثبوته عن النبي (ص) مبني على مذهبه من أنه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع، أو إرسال واتصال حكم بالوقف والارسال، وهذه قاعدة ضعيفة ممنوعة عند المحققين، وقد عرفت مذهبهم الصحيح في ذلك.
ولعل في قول الترمذي: «وفي الباب عن ابن عباس»، إشارة إلى أن الحديث وإن كان في سنده مقال ـ عند بعضهم ـ إلا أن وروده من طريق آخر عن ابن عباس يجبر ذلك، فتأمل.
وبالجملة، فلم يأت أبو الفرج ابن الجوزي ولا غيره ممن رد هذا الحديث وأبطله بعلة قادحة في حديث شريك سوى دعوى الوضع دفعا بالصدر ـ كما قال الحافظ أبو سعيد صلاح الدين العلائي ـ.
هذا كله في ما يتعلق بحديث أمير المؤمنين من طريق الصنابحي."
وأما الطريق الأخر فهو :
"حديث علي من طريق عبيد الله بن أبي رافع المدني
2 ـ وأما حديثه من طريق كاتبه عبيد الله بن أبي رافع المدني مولى النبي (ص)، فقد أخرجه الامام الشريف محمد بن علي الحسني في كتاب من روى عن زيد بن علي الشهيد من التابعين عن الحسن بن زيد، عن زيد بن الحسن السبط، عن زيد بن علي الشهيد، عن علي بن الحسين، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي .
والحسني هذا أثنى عليه الذهبي في سير أعلام النبلاء، وحكى عن شيرويه أنه قال: ثقة صدوق.
والحسن بن زيد من رجال النسائي، وقد ذكره ابن حبان في الثقات ووثقه العجلي وابن سعد وأبوه زيد بن الحسن ذكره ابن حبان في الثقات وكان من سادات بني هاشم، وقال ابن حجر في التقريب: ثقة جليل.
وزيد بن علي الشهيد أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي في مسند علي وابن ماجة، وذكره ابن حبان في الثقات.
وعلي بن الحسين زين العابدين احتج به الجماعة، واتفق الائمة على توثيقه.
وعبيدالله بن أبي رافع أخرج له الستة، وقال أبو حاتم والخطيب: ثقة.
وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن تيمية في الفرقان: إنه من الصادقين كالحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وعبيدة السلماني."
واما الطريق الثالث عن على فهو حيث قال:
حديث علي من طريق الشعبي
3 ـ وأما حديث الشعبي عن علي ، فقد أخرجه أبو بكر بن مردويه في المناقب من حديث الحسن بن محمد، عن جرير، عن محمد ابن قيس، عن الشعبي، عن علي ، قال: قال رسول الله (ص): أنا دار الحكمة وعلي بابها.
قال ابن الجوزي: محمد بن قيس مجهول.
قلت:
هذا جهل من ابن الجوزي وظلمة فوق ظلماته، فإن محمد بن قيس هذا، هو الاسدي الوالبي الذي روى عن سلمة بن كهيل وعامر الشعبي وجماعة، روى له البخاري في الادب المفرد ومسلم وأبو داود والنسائي.
قال أحمد بن حنبل: كان وكيع إذا حدثنا عن محمد بن قيس الاسدي قال: وكان من الثقات.
وقال عبد الله بن أحمد: سئل أبي عن محمد بن قيس الاسدي، فقال: ثقة لا يشك فيه.
وقال ابن معين وابن المديني وأبو داود والنسائي وابن سعد ويعقوب ابن سفيان: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. انتهى.
بل لو كان ابن قيس مجهولا ـ كما زعم ابن الجوزي ـ لما ساغ له إيراد حديثه في الموضوعات، لان جهالة حال الراوي لا تقتضي وضع حديثه، ولكن أبا الفرج حاطب ليل لا يميز بين الغث والسمين، ولا يدري ما يخرج من رأسه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فلم يبق في سند هذا الحديث مطعن ولا مغمز سوى دعوى الارسال، فإن الشعبي لم يسمع عليا ـ كما قيل ـ.
وتحقيق الحق في المقام يستدعي الكلام على ذلك بما يحتمله هذا الجزء.
فنقول ـ وبالله تعالى التوفيق ـ:
إن رواية الشعبي عن علي ثابتة عند القوم بلا ريب، كما في حديث رجم شراحة الهمدانية الذي أخرجه البخاري في صحيحه، وقد جزموا باتصاله لثبوت اللقاء، وكونه على عهد علي قد ناهز العشرين سنة، فجاز أن يكون قد سمع حديث الباب أيضا من علي فيحمل على الاتصال، ويبطل قول الدارقطني: إنه لم يسمع من علي غير الحديث المذكور.
ومما يعكر على دعوى الدارقطني، أن الشعبي روى عن خلائق من الصحابة ـ كما يعلم ذلك من ترجمته في تهذيب الكمال ـ بل قد حكي عنه أنه قال: أدركت خمسمائة من أصحاب رسول الله (ص) يقولون: علي وطلحة والزبير في الجنة.
فيبعد حينئذ أن لا يكون قد سمع من علي سوى حديثه في الرجم، مع ثبوت لقائه وسماعه، وكونه في سن التحمل، فتأمل.
ولو تنزلنا، فإن المرسل إذا أسند من وجه آخر دل ذلك على صحته ـ كما هو مختار الشافعي ـ وقد عرفت أن هذا الحديث مخرج من وجه آخر بإسناد متصل صحيح.
بل إن حديث الشعبي لو لم يسند من وجه آخر، لكان صحيحا مقبولا أيضا، فإن منهم من قبل مراسيل التابعين على اختلاف طبقاتهم، وهذا هو الذي يقول به مالك وجمهور أصحابه وأحمد وكل من يقبل المرسل من أهل الحديث.
ومنهم: من خص القبول بمراسيل كبار التابعين دون صغارهم الذين تقل روايتهم عن الصحابة ـ كما حكاه ابن عبد البر ـ.
ومنهم: من فرق بين من عرف من عادته أنه لا يروي إلا عن ثقة فيقبل مرسله، وبين من عرف أنه يرسل عن كل أحد سواء كان ثقة أو ضعيفا فلا يقبل مرسله، وهذا اختيار جماعة كثيرين من أئمة الجرح والتعديل كيحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني وغيرهما، واختاره العلائي في جامع التحصيل.
قلت:
فعلى كل واحد من هذه الاقوال يتعين الاخذ بمراسيل الشعبي، بل إن مراسيله قد اتصفت ـ عند العلماء ـ بالصحة، وامتازت بالقبول مطلقا.
قال العجلي: مرسل الشعبي صحيح، لا يرسل إلا صحيحا
وأخرج الشيخ الامام أبو جعفر الطوسي رحمه الله حديث الباب في أماليه من طريق أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام، عن أبيه ؛ قال أبو جعفر رحمه الله: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله الغضائري، قال: أخبرنا محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الليثي، قال: حدثنا أحمد بن محمد الهمداني، قال: حدثنا يعقوب بن يوسف بن زياد، حدثنا أحمد بن حماد، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر الباقر ، عن علي بن الحسين ، عن الحسين بن علي ، عن علي بن أبي طالب ، قال: قال رسول الله (ص): أنا مدينة الحكمة وأنت يا علي بابها.. الحديث.
وقد تبين مما ذكرنا أن حديث أمير المؤمنين علي ثابت بلا ريب ولا شبهة، فالمنازع في ذلك مكابر متعنت، لا ينبغي الاصغاء إلى هذيانه، ولا إلقاء السمع إلى زخرف قوله وبيانه.
وإذا لم تر الهلال فسلم * لاناس رأوه بالابصار"
وكل ما نقله الكاتب وانتقد بعضه ووافق على بعضه هو كلام يثبت أن لا أصل للرواية وأن أهل العلم اختلفوا وناقض كلامهم بعضه بعضا ومع هذا يصر الكاتب على صحة الرواية مع تعارضها مع كتاب الله
والغلط فيه هو أن على باب الحكمة وحده وهو ما يعارض كثرة البوابين للدار والمعنى من معهم مفاتيح العلم الذين يعلمون ما بداخل الدار وهى الوحى والدليل قوله سبحانه:
"فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون "
تصديقا للآية فالمتعلمون من الرسول كان عددهم كبير اكثر من واحد لكل قرية أو شعب
والسؤال إذا مات على بعد موت محمد(ص) فماذا يتبقى وقد هلكت الدار وهلك بوابها ؟
بالطبع ماتوا ومات غيرهم وبقى الوحى محفوظ بحفظ الله وليس بحفظ بشر كما قال سبحانه :"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"