خواطر حول مقال صور الموتى .. الوجه الآخر للموت
الكاتب هو اياد العطار وموضوع المقال هو أن الناس منذ عصور قديمة دأبوا على عمل صور للموتى عند موتهم من خلال ما أسموه صندوق قناع الموتى حيث كان المصورون يجلبون الصندوق عند استدعائهم ومعهم شمع أو جبس أو طين ويقومون بوضع رأس الميت فيه ثم يقومون بصب الشمع او الطين أو الجبس في الصندوق وعندما يجف يقومون بنزع الصندوق ونزع القناع من على وجه الميت وبقية رأسه حيث تنطبع صورة الوجه كما كان بالضبط
وقد حكى ما كان يحدث في أوروبا من قرنين من خلال تصويرهم للأحياء من الأغنياء وحتى موتاهم حيث قال :
"في القرن التاسع عشر، مع البواكير الأولى لمهنة التصوير الفوتوغرافي، حظي المصورين بأهمية وشأن عظيم، فكانوا ضيوفا دائمين على قصور الملوك والنبلاء والأثرياء لتصوير المناسبات الخاصة والعامة، كما لم تخلوا منهم بيوت الناس العاديين في مناسبات نادرة وقليلة كالأعراس والجنائز، فمهنة التصوير آنذاك لم تقتصر على الأحياء بل شملت الأموات أيضا!،فكانت العائلات الثكلى تستدعي المصورين لالتقاط صور تذكارية لجثث أحباءها الراحلين، وكان هذا الأمر عاديا ومتعارفا عليه آنذاك، لا يثير التعجب ولا الاستنكار، ربما لأن الموت نفسه كان امرأ عاديا في تلك الحقبة، حيث كان الأطفال يموتون بالجملة بسبب أمراض بسيطة، وكانت آفات كالسل والجدري والحمى الصفراء تحصد ملايين البشر حول العالم."
وعادنا بنا إلى زمن اقدم فحدثنا عن تماثيل وجوه الملوك وغيرهم حيث قال :
"هل نظرت يوما عزيزي القارئ إلى ناووس الفرعون توت عنخ آمون؟ هل تساءلت بحيرة عن سر جمال وجهه وروعته؟ .. كيف تسنى للمصريين القدماء قبل آلاف السنين نحت وجه بهذا البهاء؟
ماذا أيضا عن منحوتات الإغريق الرومان؟ هل شاهدت روعتها؟
هل دققت النظر في تماثيل أرسطو ويوليوس قيصر وفيليب المقدوني .. الخ وتساءلت عن سر هذا الجمال والتناسق المدهش في قسمات وجوههم؟."
وتناول كيفية عمل تلك التحف الوجهية فأخبرنا بقناع الموتى حيث قال :
"كيف تمكن أولئك القدماء "المتخلفين" من خلق هذه التحف الفنية المذهلة؟.
الجواب بسيط .. أنه قناع الموت ( Death mask ) .. وهو مصطلح ربما لم يسمع به الكثيرون، لكن وراءه يكمن السر الحقيقي لروعة العديد من التماثيل والتحف التي طالما أثارت دهشتك واستغرابك عزيزي القارئ، فالقدماء لم يكونوا "أغبياء" بالدرجة التي قد تظنها، عشقوا الجمال منذ فجر التاريخ، وحاولوا برغم بساطة وسائلهم أن يسكبوا خلاصة مهاراتهم على الصخر لخلق وجوه بشرية أقرب ما تكون إلى الحقيقة والكمال، لكن بغياب وسائل التصوير الحديثة التي نعرفها ونستعملها اليوم، كان النحاتون يعانون من عدم توفر نماذج وصور توضح الملامح الحقيقية لوجوه الملوك والنبلاء وعظماء الشعوب الذين ينوون تشييد نصب وتماثيل تحيي ذكراهم، ولحل تلك المعضلة تفتق عقل أولئك العباقرة القدماء عن فكرة رائعة تمثلت في صنع قالب لوجه الميت بحيث يمكن الاستفادة منه واستعماله لاحقا!، فصناعة القوالب كانت من صميم مهنة النحات، كل ما يتطلبه الأمر هو حشر رأس الميت في صندوق خشبي مغلق الجوانب ثم صب طبقة من الطين أو الجبس أو الشمع فوق الوجه وانتظاره حتى يجف، ثم ترفع تلك الطبقة لاحقا ليحصل النحات على قالب مطابق تماما لوجه الميت."
وتناول كيفية استفادة المحدثين من اقنعة الموتى من خلال وضعها في المتاحف:
"ومنذ عهد الفراعنة وحتى القرن التاسع عشر ظهرت آلاف أقنعة الموت التي نسخت عن وجوه الكثير من العظماء والقادة والشخصيات المؤثرة في التاريخ، وقد تحولت هذه الأقنعة إلى عامل جذب سياحي فراحت كبريات المتاحف العالمية تتنافس على شراءها، فالناس يودون بالتأكيد رؤية وجه نابليون الحقيقي ويتهافتون على مشاهدة قناع الموت المأخوذ عن الرأس المقطوع لماري ملكة اسكتلندا، ويشعرون بالرهبة من منظر رأس روبسبير المخضب بالدم الذي أبدعت مدام تيسود في صنعه مثلما أبدعت في صنع المئات من أقنعة الموت الشمعية التي نسختها عن الرؤوس التي أطاحت بها المقصلة خلال الثورة الفرنسية "
وتناول أن الطبقات الأقل أصبحت هى الأخرى توثق وجوه موتاها وأن الشرطة استعملت نفس التقنية في حفظ وجوه الجثث المجهولة الشخصية للتعرف على اصحابها فيما بعد حيث قال :
"لكن خلال القرنين الثامن عشر والسابع عشر لم تعد أقنعة الموت مقصورة على مشاهير المجتمع، بل انتشر استعمالها بين عامة الناس أيضا، وقد أولت شرطة ذلك الزمان اهتماما كبيرا بتلك الأقنعة، فصار لزاما على الأطباء صنع قناع موت لوجوه الجثث مجهولة الهوية التي يعثر عليها ولا تعرف هوية صاحبها، وكانت تلك الأقنعة تقوم مقام الصور الفوتوغرافية في زماننا هذا، حيث يتم عرضها على عائلات المفقودين لعلهم يعثرون بينها على وجوه أحبائهم الغائبين."
وتناول قناه فتاة السين المجهولة حيث قال :
"من أجمل وأروع أقنعة الموت في تلك الحقبة هو القناع الشهير المسمى فتاة السين المجهولة ( L'Inconnue de la Seine ) والذي يعده البعض بمثابة موناليزا دافينشي في روعته بسبب الابتسامة الرقيقة والغامضة التي تعلو وجه الفتاة التي تم أخذ القناع عن وجهها، وهي فتاة مجهولة الهوية تم العثور على جثتها غارقة في نهر السين عام 1880، ولم تحمل جثتها أي جروح أو آثار للعنف، مما رجح فرضية موتها منتحرة.
أثناء مكوث الجثة في مشرحة المدينة، افتتن أحد الأطباء بجمال الفتاة فقرر صنع قناع موت لوجهها، وسرعان ما تحول هذا القناع إلى أيقونة للجمال علت وجوه الكثير من تماثيل ومجسمات الرخام والخشب التي طرزت بيوت الباريسيين وقصورهم. ولعل أعجب ما في هذا القناع وقصته هو بقاء صاحبته مجهولة الهوية حتى يومنا هذا، فرغم شهرته وانتشاره بين الناس في القرن التاسع عشر إلا أن أحدا لم يستطع التعرف على الهوية الحقيقية لفتاة السين المجهولة ولا السر الكامن وراء الابتسامة الغامضة التي علت وجهها لحظة موتها."
وتناول انتشار الصور مع ظهور الكاميرا خاصة لتوثيق صور الأطفال الذين كانوا يموتون كثيرا كما يزعم في ذلك الزمن حيث قال :
"صور الموتى
مع ظهور الكاميرا وانتشار التصوير الفوتوغرافي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أخذت أهمية وشعبية قناع الموت بالتراجع والانحسار، وعوضا عنه ظهرت صرعة جديدة تمثلت في التقاط الصور الفوتوغرافية للموتى حديثي الوفاة ( Post-mortem photography ). طبعا هذا الأمر قد يبدو غريبا من وجهة نظرنا الآن، لكنه لم يكن كذلك في ذلك الزمان، ولا أظنه غريبا على الإطلاق حين نعلم بأن الموت في ذلك الزمان كان أقرب إلى أذهان الناس مما هو عليه الآن، موت الأطفال مثلا في سن مبكرة كان أمرا شائع الحدوث بسبب تخلف الطب وعدم توفر الأدوية والمستشفيات الحديثة.
على المستوى الشخصي وكمثال حي على هذه الظاهرة أذكر بأن المرحومة جدتي أخبرتني حين كنت طفلا بأنها خسرت أربعة من أطفالها السبعة الذين أنجبتهم في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم، جميعهم ماتوا في سن مبكرة بسبب أمراض نعتبرها اليوم حالات بسيطة وسهلة العلاج، إذ نادرا ما يموت طفل في زماننا هذا بسبب الأنفلونزا الموسمية أو التايفوئيد او النكاف أو الإسهال وغيرها من الأمراض التي كانت تحصد أرواح ملايين الأطفال حول العالم حتى عقود قريبة خلت.
الأمر الثاني الذي قد يفسر لنا سر التقاط صور الموتى هو غلاء التصوير الفوتوغرافي في ذلك الزمان، فلم يكن باستطاعة جميع الناس التقاط الصور، ذلك أن التصوير الفوتوغرافي كان من الرفاهيات والكماليات التي لم تكن متاحة سوى للأغنياء والمترفين، وعليه فإن معظم الناس كانوا يموتون ويغادرون هذا العالم من دون أن يحظوا حتى بصورة واحدة فقط تخلد ذكراهم، وكنوع من التعويض والتكريم دأب أناس ذلك العهد على التقاط صورة أخيرة لعزيزهم وفقيدهم الراحل لحفظ ذكراهم طرية في القلوب والعقول لسنوات طويلة بعد موته، فالعائلة التي كانت تفقد طفلها مثلا كانت تسعى جاهدة للحصول على صورة أخيرة له من أجل الذكرى ولأجل أخبار الآخرين - ربما بعد سنوات طويلة - أي طفل جميل كان لديهم قبل أن تمتد إليه يد الموت الغادرة لتختطفه من بين أيديهم."
وتناول أن ظاهرة تصوير الموتى وهم ميتيين اختفت في أوائل القرن العشرين بسبب سهولة التصوير عن طريق الكاميرات المحمولة والثابتة حيث قال :
"الآن وقد فهمنا سر تصوير الموتى في القرن التاسع عشر، فبإمكاننا أن نفهم أيضا سر تغير نظرة الناس نحو الظاهرة ومن ثم اختفاءها تماما في بدايات القرن العشرين، فمن ناحية انخفضت نسبة الوفيات بصورة كبيرة فصار الموت أمرا بعيدا ونادر الحدوث قياسا بما كان عليه في القرن التاسع عشر، ولم يعد الناس يرغبون بتذكر الموت ولا الموتى، صاروا يكرهون أي شيء يذكرهم بسيرة الموت، بل أن العديد منهم صاروا يمضون عقودا طويلة من حياتهم من دون أن يروا جثة بشرية واحدة. ومن ناحية أخرى فأن تطور وسائل التصوير الفوتوغرافي وانتشار الكاميرات الرخيصة بصورة مذهلة في القرن العشرين جعل التقاط الصور من أسهل الأمور وأكثرها روتينية، فقد التقاط الصور بريقه ولم يعد مناسبة خاصة تستلزم اجتماع العائلة والأصدقاء وتستوجب ارتداء أفضل الثياب وأكثرها أناقة، أصبح الناس يلتقطون عشرات ومئات الصور لأنفسهم خلال حياتهم من دون عناء، ومع كل هذا الكم الهائل من الصور التي يظهرون فيها خلال حياتهم لم يعد هناك من داعي لأخذ صورة تذكارية لهم بعد الموت، بل صار ينظر إلى هذا الأمر كتدنيس لحرمة الميت."
وتناول أسباب تصوير الموتى حاليا وهى اسباب مغايرة وهى السبق الصحفي أو الدعاية أو كسب التعاطف مع قضية ما أو التنافس على كسب الجوائز العالمية في مجال التصوير الفوتوغرافي حيث قال :
"إن اضمحلال ظاهرة تصوير الموتى لا يعني بالضرورة بأن المصورين الفوتوغرافيين هجروا التقاط صور الجثث البشرية نهائيا، لكن أسباب التصوير ودوافعه اختلفت، فصارت تلك الصور تلتقط خلال الحوادث والكوارث والحروب والإعدامات من أجل السبق الصحفي أو الدعاية أو كسب التعاطف مع قضية ما أو التنافس على كسب الجوائز العالمية في مجال التصوير الفوتوغرافي، وهناك بالفعل بضعة مصورين عالميين اختصوا بالتقاط هذا النوع من الصور، وأبدعوا حقا في تصوير الموت وإظهاره بشكل لا يسبب نفور المشاهد وانزعاجه. إضافة إلى ذلك فأن التقاط الصور للجثث المجهولة الهوية لازال معمولا به في أغلب دول العالم بغية المساعدة على التعرف على هوية هؤلاء الموتى لاحقا. "
وتناول ما كان المصورون القدامة يقومون به عند يقومون بتصوير الموتى من خلال القناع حيث قال :
"أخيرا فأن جميع الصور المرفقة مع المقال تعود لموتى حقيقيين، أشخاص ماتوا منذ زمن طويل، تحولت أجسادهم وعظامهم إلى تراب منذ أمد بعيد ولم يبق من ذكراهم سوى هذه الصور الغريبة التي تفنن مصورو ذلك الزمان في التقاطها وبذلوا عناية فائقة في محاولة اظهار الميت فيها وكأنه لا يزال على قيد الحياة، وقد استعملوا لهذه الغاية العديد من الحيل والخدع، كالحبال والأعمدة المخفية ببراعة والتي كانت تستخدم لإظهار الميت في هيئة الوقوف أو الجلوس كالأحياء!، وكانوا أيضا يقومون بلصق الجفون لكي تبقى العين مفتوحة، وربما عمدوا إلى رسم حدقات فوق الأجفان المغلقة لإظهار العيون وكأنها مفتوحة، وهذه العملية كانت تتم بعد تحميض الصورة وطباعتها، كما كانوا يصبغون الخدود والشفاه بألوان غامقة لتبدوا أكثر احمرارا من ملامح الموتى الباهتة والشاحبة وتعطي انطباعا بالحياة، وأخيرا فقد درجوا على تدوين اسم الميت تحت الصورة وذكر سبب موته كما أن معظم الصور تظهر أهل وأقارب المتوفى معه، وبعض تلك الصور يقطع نياط القلب، على الخصوص صور الأمهات الثكلى وهن يحتضن جثث أطفالهن."