خواطر حول خطبة ( مملكة سبأ )
الخطبة موضوعها مملكة سبأ التى سادت كما يقال ثم بادت وقد ابتدأ الخطيب خطبته بقوله حيث قال :
"أتحدث إليكم اليوم عن مملكة .. مملكة كانت من أعظم ممالك التاريخ، سادت ثم بادت, وذهب سلطانها وهيلمانها حتى أصبحت أثرا بعد عين, وغدت رواية تحكى, فإلى حديث القرآن وهو يعرض قصة هذه المملكة ويسجل أحداثها ونهايتها عبرة لأولي الأبصار ."
وابتدأ بذكر كلام الله عن جنات سبأ حيث قال :
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور )) ."
وتناول ما وهبه الله لقوم سبأ ونقل قولا لا يصدقه طفل عن قتادة حيث قال:
كانت مملكة سبأ ، من ممالك اليمن العظيمة .. وكان أهلها في أرض خصبة وثمرة يانعة, جنتان عن يمين وشمال, رمز ناطق بالخضرة والجمال, والرخاء والمتاع .
قال قتادة -رحمه الله- : كانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل, فتساقط الثمار فيه من غير حاجة إلى كلفة أو قطاف, لكثرته ونضجه, واستوائه. اهـ"
فلا وجود لنزول الثمار من الشجر في المكاتل أو المقاطف دون جمعها بالأيدى أو بآلة
وواصل الخطيب قول أى كلام فتحدث عن تحكم سبأ في مطر السماء مع أنه حسب كلامه عملوا سدا حيث قال :
"ووهب الله قوم سبأ ذكاء ودهاء, فتحكموا في القطر النازل من السماء .. أقاموا خزانا طبيعيا، جانباه من جبلين عظيمين، وجعلوا بينهما على فم الوادي سدا كبيرا به عيون تفتح وتغلق، وهو سد مأرب الشهير!! فكانوا يرتعون فيه, ويسقون زروعهم ومواشيهم, في نظام متقن بديع, لقد كانت حياتهم حياة الرفاهية بكل ما تحمله الكلمات من معان, ولم يكن في بلادهم شيء من البعوض أو الهوام لاعتدال الهواء, وصحة المزاج, وعناية الله الفائقة بهم"
والحقيقة أن الله لم يذكر في كتابه ما يسمى سد مأرب ولا علاقة بين سبأ القرآنية وسبأ التى يطلق عليها سبأ مأرب
وذكر أمر الله القوم بشكره على نعمه حيث قال :
"(كلوا من رزق ربكم و اشكروا له بلدة طيبةورب غفور), بلدة طيبة معطاء, آمنة مطمئنة رخاء .. ورب غفور, ودود رؤوف, جواد رحيم, فأي عذر بقي لأولئك يحول بينهم وبين حسن القصد والعمل ؟!
ترى ماذا كان يضير سبأ لو أطاعوا ربهم, وآمنوا برسله؟ ، ماذا كان يضيرهم لو عرفوا للمتين الوهاب حقه, وأدركوا أن ما يتمتعون به من النعيم المقيم, والظل الوارف, والماء المسكوب, هو فضل من الله ومنة؟!! فلم التجبر والطغيان؟؟"
ولكن القوم بم ينصاعوا لنصح رسولهم(ص) الذى أرسله الله إليهم فكانت النتيجة هلاك الجنتين وتبديلهم بجنتين من ثمار أخرى أقل نفعا حيث قال :
"((كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل)) .
(فأعرضوا ) .. هذا هو مكمن الخطأ, وبداية النهاية, وبوادر الكارثة .. أعرضوا عن شكر النعم, وإجابة المرسلين, واستبدلوا بعبودية الله عبودية شمس تشرق وتغرب, ويحجب أشعتها ركام يسير من السحاب!"
وسبأ في تلك الآيات كانت في عصر أخر غير عصر سليمان (ص)وأما سبأ التى تناولها الهدهد بالحديث لسليمان(ص) فهى سبأ في عصر أخر وقد ذكرها الخطيب حيث قال :
"حتى قال عنهم الهدهد لسليمان: (( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين *إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون )) .
يا لخيبتهم وتعاستهم !! نعم تتنزل صباح مساء, وعطاء بلا حدود, وفضل بلا قيود، ثم يقابل ذلك كله, بتأليه شمس مأمورة, لا تنفع ولا تضر.. إن هذا لهو الضلال المبين! .
(فاعرضوا) .. فأرسلنا عليهم سيل العرم، يقتلع أشجارهم, ويفسد ثمارهم, ويقوض ديارهم, ويطمس زهرة حياتهم.
لقد كان سيلا مهولا يحطم كل شيء , ويدمر كل شيء, يحمل في طريقه الصخور العاتية, لتحطيم السد العظيم .
(( وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل)) يا سبحان الله ! هكذا في ساعة من نهار, إذ بالجنان الفيحاء والحدائق الغناء, تنقلب صحراء قاحلة وبلاقع هامدة, لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ!! وإذ بالثمار الناضجة, والظلال الوارفة, تتحول إلى شوك حاد, وأثل يابس وشيء من سدر قليل, مع لوعة في القلب موجعة, وحسرة في الصدر كامنة, ودمعة في العين حارة، وما أهون الخلق على الخالق حين يعصون أمره .
وليت الحالة البائسة وقفت عند هذا الحد .. كلا، فما زالت فيهم بقية من نعمة تنتظر التدمير والإهلاك ."
ونجد أن الخطيب يخلط بين سبأ الجنتين وسبأ الملكة التى أسلمت مع سليمان(ص) مع أن كل قصة ذكرت في سياق مختلف عن الأخر
وأكمل قصة سبأ ذات الجنتين متناولا رفضهم نعمة الراحة في السفر حيث طالبوا بمسافات أكبر كى يتعبوا حيث قال :
"قال الله: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) .
لقد كان طريق سبأ، من اليمن إلى الشام، طريقا مأمون الاتجاهات، محدود المسافات، على جانبيه قرى متلاصقة, لا يكاد المسافر يخرج من قرية إلا يدخل الأخرى, فلا يحتاج في الحالة هذه إلى حمل زاد أو طعام, ولكن غلبت الشقوة على الأشقياء من سبأ ((فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم )) ربنا اجعل بين أسفارنا مسافات بعيدة, ومفاوز شاسعة، حتى نشعر بعناء السفر ومشقته!! .
يا للسفه والجنون! ويا للحماقة والطيش! أناس هيئ الله لهم قرى متقاربة، وطرقا آمنة, فإذا بهم يتطلبون المسافات البعيدة, والقرى النائية "
فكانت نهاية سبأ الجنتين هى تمزيقهم كل ممزق والمراد أن الكفار هلكوا جميها فيها كما قال سبحانه :
"(وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقنا هم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) ."
وتناول الخطيب نهاية القوم حيث قال :
"كان لا بد من وضع حد لكبرياء القوم وغرورهم, وتجبرهم وطغيانهم , فإذا بالجموع المتماسكة, والبيوت المتلاقصة, والأسر المتقاربة، تتمزق وحدتها, وتتقوض سلطتها, فجعلناهم أحاديث ومزقنا هم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .
تلكم عباد الله، قصة مملكة سبأ، وإن فيها لآيات لكل صبار شكور .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم "
وتناول الفائدة من ذكر قصة سبأ الجنتين وهى الاعتبار بما حدث لهم من عقاب أولى وعقاب نهائى حيث قال :
"عباد الله .. لماذا يحدثنا الله حديث سبأ, ويقص علينا نبأهم؟
حاشاه سبحانه أن يكون حديثه لمجرد التسلية أو شغل الفراغ, إن الغاية التي من أجلها يقص علينا الله أخبار الأمم هي الاعتبار بالآيات والادكار بالمثلات، كما ختم الله القصة بقوله (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)
إنه لا فضل لنا على سبأ ولا لسبأ علينا, إلا بالإيمان والتقوى, والله لا يحابي أحدا, فمتى حصل الكفر والطغيان, والبطر والعدوان, فالعقوبة جاهزة، والنقمة حاضرة, وما ربك بظلام للعبيد ."
وتناول وجوب شكرنا وصبرنا حيث قال :
"(إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) .. فما يعي الدروس, ولا يستلهم العبر إلا من اتصف بالصبر والشكر.
أما الصبر: فهو توطين النفس على طاعة الله, وكفها عن محارمه, وبذل النفس والنفيس لإرضاء الخالق جل جلاله !!
وأما الشكر: فما أكثر ما يظلمه الناس, ويسيئون إليه, حين يحسبونه تمتمة باللسان, وحركة في الشفاه, دون استشعار لمعناه العظيم, ومفهومه الكبير !
ألا إن الشكر الذي تدوم به النعم وتزداد، وجدان وشعور قلبي, وعمل وسلوك واقعي, وثناء جميل على المتفضل بالإحسان جل في علاه .
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
شكر النعم:بالعودة الصادقة إلى الكتاب والسنة, علما وعملا وتحاكما.
وشكر النعم:يكون بنبذ الأمة للمذاهب الهدامة, والنحل الضالة والأفكار المسمومة.
وشكر النعم: يكون بتطهير الأموال من الحرام, وتنقية المكاسب من الشبهات.
وشكر النعم:يكون بحفظ الشباب من البؤر المشبوهة, والتوجهات المنحرفة .
وشكر النعم: يكون بصون المرأة عن الفتن والميوعة, والسفور والخلاعة.
الشكر: مفهوم عظيم, ومعنى كبير, ولكن كما قال الله : ((وقليل من عبادي الشكور )) , (( وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون )) ."