خواطر حول بحث الفلاسفة والعرفاء وتفسير الثواب والعقاب
الكاتب هو يحيى محمد وقد ابتدأ بذكر اعتقاد الفلاسفة أن من عمل خيرا في حياته سينال خيرا بعد مماته ومن عمل شرا فسينال شرا حيث قال :
"لدى الفلاسفة ان النفس عند مفارقة البدن تظهر عليها اعمالها السابقة، فإما ان تكون حياتها سعيدة بفعل ارتباطها بالمفارقات السماوية واتصالها بالعلويات عن طريق التعلم والتعقل، او ان تكون حياتها معذبة بفعل جهلها وسوء اعمالها، فالثواب والعقاب انما هو بهذا المعنى."
وقد ذكر أن الفلاسفة يجعلون العقاب الأخروى ألم كألم المرض حيث قال :
"ويصور الفلاسفة العقاب في الاخرة بأنه كالمرض الذي يصيب البدن، فهو لازم للنفس على ما ارتكبته من خطايا خلال الحياة الدنيا، دون ان يكون هناك معاقب خارجي او منتقم منفصل عنها".
وبرر الكاتب هذا التصور الفلسفى من خلال قانون العلة والمعلول حيث قال :
"ويكتسب هذا التصور مبرراته بحسب الرؤية الفلسفية من العلاقة التي تربط المعلول بالعلة، تبعاً لمنطق المناسبة والسنخية حيث يكون العقاب مناسباً لعلته من الجهل المعرفي وارتكاب الخطايا، مثلما يكون الاجر والثواب مناسباً لعلته من العلم والتعقل وممارسة الخيرات، وفي جميع الاحوال فان النتيجة المترتبة على ذلك ليست منفصلة عن العلة التي افضت اليها، مما يعني انه لا يوجد معاقب مستقل خارجي، ولا مثيب منفصل."
وبالطبع هذا التصور الفلسفى لا ينبع من الفلسفة لأنه له أصل سابق على وجود الفلسفة وهو الوحى الإلهى فنظرية العقاب والثواب في الفلسفة مأخوذة من الدين فالفلاسفة لو جلسوا إلى الأبد فلن يصلوا معرفة الثواب والعقاب وماهيته
ووجهات النظر الفلسفية ليست واحدة كما تكلم الكاتب فالفلاسفة مختلفون فالبعض منهم ينكر أساسا الثواب والعقاب فبوذا كما يحكون توصل للمبدأ الأول من الخير يأتى الخير ومن الشر ياتى الشر ولكنه لم يؤمن بثواب ولا عقاب ولا أخرى
وتحدث عن الرؤية العرفانية فقال :
"أما بحسب الرؤية العرفانية فالملاحظ ان مبررات العقاب الالهي قائمة على اصلين هما الاعيان الثابتة والاسماء الالهية. فعبر هذين الاصلين حاول العرفاء الجمع بين امرين متعارضين: الاول يتمثل بعدّ الوجود محض الخير والرحمة واللذة. والثاني هو الاقرار بضرورة لزوم العقوبة والغضب والعذاب. فمن حيث الاعيان الثابتة، ما من شيء يحدث الا ويكون مقضياً عليه ازلاً في العالم العلوي الذي يتقرر منه منبع الاختلاف والتفاوت؛ فيعرف السعيد والشقي، والمثاب والمعاقب، وعليه قال احد العارفين: ان الله يعامل العباد في الابد على نحو ما عاملهم في الازل. وقال اخر: ليس الخوف من سوء العاقبة، انما الخوف من سوء السابقة. فالسعيد سعيد في الازل، والشقي شقي لم يزل
وكما يشير القيصري الى ان جهنم هي مظهر كلي من المظاهر الالهية، فيها جميع مراتب الاشقياء، مثلما ان الجنة هي الاخرى مظهر كلي يحتوي على جميع مراتب السعداء، ومن حيث اعيان الاشقياء فان كمالهم الدخول في جهنم، وكذا فانه من حيث اعيان السعداء فان كمالهم الدخول في الجنة فكل من المجموعتين عندما تدخل ما يناسبها فانها تحصل على الكمال الذي تقتضيه اعيانها الثابتة، وهذا الكمال هو عين القرب من ربها، سواء كان الحال مع السعداء ام الاشقياء، فببلوغها الكمال الذي يخصها فانها تكون على قرب من الرب الذي يخصها. وهذا هو الجبر الذي اشار اليه ابن عربي بقوله: فما مشوا بنفوسهم، وانما مشوا بحكم الجبر الى ان وصلوا الى عين القرب، تبعاً لحكم ما عليه اعيانهم الثابتة وما تقتضيه منهم. فالجبر يعود الى هذه الاعيان واستعداداتها، وليس للحق الا ان يتجلى عليها باسمائه وفقاً لهذه الاستعدادات الثابتة. وبالتالي كان الجبر مسنداً اليها لا الى الرب او الارباب4أما من حيث الاسماء الالهية، فقد قُدر للوجودات ان تكون في خير ولذة، كما قُدر لها ان تذوق طعم العذاب. وتبرير ذلك مستمد بحسب منطق السنخية من ضرورة حفظ المراتب بالخضوع الى اربابها من الاسماء. فكل اسم له توابعه الخاصة، فمثلاً ان الجماعة التي يتحتم عليها ان تتبع وتعبد الرب المنتقم، لا بد لها ان تظهر بمظهر الكفر والسوء، فيلزم عنها العقوبة والعذاب من دون حاجة الى اي منتقم منفصل. وكما صرح صدر المتألهين من ان الملائكة ومن ضاهاهم من المؤمنين والاخيار مظاهر اللطف، والشياطين ومن والاهم من الكفار والاشرار مظاهر القهر. ومظاهر اللطف هم اهل الجنة والاعمال المستتبعة لها، ومظاهر القهر هم اهل النار والاعمال المعقبة اياها، فخلق الله تعالى للجنة خلقاً يعملون بعمل اهل الجنة، وللنار خلقاً يعملون بعمل اهل النار، فكما ان وجود كل من صفتي اللطف والقهر مما لابد؛ فكذا لا بد من وجود مظاهر كل منهما بحسب كل مرتبة، وكما لا اعتراض لاحد عليه تعالى في وجود اصل المظاهر والمعاليل من لوازم الالهية واثار الربوبية، فكذا لا اعتراض لاحد عليه في تخصيص كل من الطريقين بما خصصوا به، فانه لو عكس الامر لكان هذا الاعتراض بحاله. ومن هيهنا تظهر حقيقة السعادة والشقاوة (فمنهم سعيد ومنهم شقي) والايمان والكفر (فمنهم مؤمن ومنهم كافر) وتظهر حقيقة كونه تعالى ولي الذين امنوا وعدو الذين كفروا، وانما وليهم الطاغوت، فالله سبحانه موصوف بصفة اللطف ولي المؤمنين وعدو الكافرين ايضاً، وان كان من جهة الرحمة المطلقة والفيض العام والجود التام يوجدهم ويرزقهم ويعطيهم المال والجاه ويجيب دعاءهم ويسمع نداءهمكما اعتبر صدر المتألهين ان المغفرة والرضوان هما من لوازم الوجود والجود، وان العقوبة هي من لوازم نفس الاعمال والاخلاق الشائنة؛ التي تمثل مظاهر القهر بحسب المراتب المتعددة، فلشدة الوجود يتوجب على النفس الخروج عن الغواشي المادية، مما يوجب شدة المؤلمات والمؤذيات، فيحل العذاب بعد زوال الحجاب، فيكون للنفس كمال من التحصل والفعلية حيث تصبح صورة بلا مادة وفعلاً بلا قوة، وتصير الشقاوة كالسعادة ضرباً من الكمال تمثل فيه مظاهر القهر والغضب.
بهذا القضاء من منطق السنخية حكم صدر المتألهين على اولئك الذين يتمنون ان يكونوا تراباً كما جاء في النص القرآني: {ياليتني كنت تراباً} النبأ/40؛ بأنهم يتمنون امراً مستحيلاً غير مقدور عليه ابداً.
وقد يقال: اذا كانت الامور مقدرة بتلك الصورة من القضاء المحتم؛ فعلام كان بعث الرسل وانزال الكتب من السماء؟
وهذا الاشكال ليس بالأمر الذي يغيب عن اذهان العرفاء، وقد أجابوا عليه من ان فائدة الرسالات انما تقتصر على المؤمنين فقط، باعتبارها مدعاة لهدايتهم، أما غيرهم فلأن طبعهم مختوم عليه فلا فائدة لهم بها، مثلما يكون الحال مع الاكمه الذي لا يستفيد من نور الشمس، بل على العكس انها تزيده حيرة وضلالة. ورغم ذلك فقد قُدّر ان المختوم على طبعه تلزم عليه الحجة واقامة البينة ظاهراً، لكي لا يعترض على المبدأ الحق تبعاً لبعض النصوص القرآنية مثل قوله تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} النساء/165، وقوله ايضاً: {ولو انا اهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا ارسلت الينا رسولاً} طه/134.
ولا شك انه لو اخذنا بهذا الفهم الوجودي للنص من وجود الحجة الظاهرة التي هي على خلاف حقيقة الامر، لكان النص موهماً وخادعاً، اذ لا فرق حينئذ بين ارسال الرسل وعدم ارسالهم، طالما ان الكافر كان في اصل الخلقة ناقصاً وشقياً تبعاً للقضاء الازلي سواء اخذنا ذلك بحسب ما عليه الاعيان الثابتة، ام بحسب ما يلزم عن الاسماء الالهية من مظاهر تمثلها."
والعرفاء وهم المتصوفة ساووا بين الخير والشرير وجعلوا معنى الثواب هو معنى الشر فالكل في النهاية قريب من الله وهم بذلك جعلوا الكون مصدر للهو والعبث وليس للحق
وانتقد الكاتب الطرفين الفلاسفة والعرفاء وهم المتصوفة حيث قال:
"وفي جميع الاحوال ان كل ما قدمه الفلاسفة والعرفاء في تفسير الثواب والعقاب لا يمت الى التكليف بصلة او يمكن القول انه ليس هناك من تكليف سوى في الظاهر والمجاز، حيث حقيقة الحال لا تتعدى الصرامة الحتمية التي تسير فيها الاشياء كما هو مقدّر لها بحسب اعتباراتها الذاتية. فمثلما قُدّر لكل شيء ان يكون ضمن نوعه الخاص؛ إن كان انساناً او حصاناً او كلباً او نباتاً او جماداً، فانه قُدّر للانسان ان تكون اعماله حسنة او قبيحة، كما قُدّر له ان يكون سعيداً او شقياً، ويظل التقدير هو تقدير حتمي بحسب حقيقة الاشياء وطبيعتها وليس بأمر خارج عنها كما تفترضه نظرية التكليف."
وهو بذلك يقول أنه لا يمكن لأحد أن يتصور العمل الصالح والعمل الشرير وما يبنى عليها من ثواب وعقاب إلا بناء على الوحى الإلهى فكل من الصنفين يعجز عن ذلك