خواطر حول بحث التنبيه على خبر باطل في أخبار مكة
الكاتب حمود بن عبد الله التويجري وموضوع البحث رواية ذكرت في كتاب الأزرقى عن محو الصور التي في الكعبة عدا صورة مريم وعيسى (ص) وهو قول الباحث حيث قال :
"وبعد فقد ذكر الأزرقي في أخبار مكة في باب ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمحو الصور التي في الكعبة سوى صورة مريم وعيسى عليهما السلام."
وذكر الكاتب أن الأزرقى ذكر في الرواية أربعة اسانيد ذكرها الكاتب حيث قال :
"وروى الأزرقي ذلك بأربعة أسانيد كلها ضعيفة فلا يغتر بها ولا يعتمد على شيء منها ..
الإسناد الأول: قال: حدثني جدي قال حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن أبي نجيح عن أبيه قال: "جلس رجال من قريش - في المسجد الحرام-.." فذكر خبرا طويلا في بناء الكعبة, وقال في آخره: "وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة، فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمن شيخ يستقسم بالأزلام، وصورة لعيسى بن مريم وأمه وصور الملائكة عليهم السلام أجمعين, فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بزمزم ثم أمر بثوب فبل بالماء وأمر بطمس تلك الصور فطمست، قال: ووضع كفيه على صورة عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام وقال: "أمحوا جميع الصور إلا ما كان تحت يدي" فرفع يديه عن عيسى بن مريم وأمه.
الإسناد الثاني: قال: وحدثني جدي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن قال أخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا شيبة امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي" قال فرفع يده عن عيسى بن مريم وأمه.
الإسناد الثالث: قال: حدثني جدي عن سعيد بن سالم قال حدثنا يزيد بن عياض بن جعدبة عن ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة يوم الفتح وفيها صور الملائكة وغيرها فرأى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم الأزلام" ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها وقال: "امحوا ما فيها من الصور إلا صورة مريم".
الإسناد الرابع: قال أخبرني محمد بن يحيى عن الثقة عنده عن ابن إسحاق عن حكيم بن عباد بن حنيف وغيره من أهل العلم أن قريشا كانت قد جعلت في الكعبة صورا فيها عيسى بن مريم ومريم عليهما السلام، قال ابن شهاب: قالت أسماء بنت شقران امرأة من غسان حجت في حاج العرب فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت: "بأبي وأمي إنك لعربية"، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمحو تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم."
وتناول الكاتب التويجرى أن تلك الروايات كلها أسانيدها معلولة ضعيفة حيث قال :
"وهذه الأخبار مردودة من وجوه:
الوجه الأول: ضعف أسانيدها:
أما الخبر الأول فإنه منقطع لأن أبا نجيح لم يدرك زمن الجاهلية ولا زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أدرك آخر زمان الصحابة رضي الله عنهم. والمنقطع لا يثبت به شيء، وأيضا ففي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد وثقه ابن معين وضعفه أبو داود وقال أبو حاتم: "إمام في الفقه تعرف وتنكر ليس بذاك القوي يكتب حديثه ولا يحتج بهط، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وهذا مما يزيد الخبر وهنا على وهنه.
وأما الخبر الثاني: فإنه أضعف مما قبله لأمرين: أحدهما: أنه مرسل والمرسل ليس بحجة، والثاني: أن في إسناده رجلا لم يسم، ومثل هذا لا يثبت به شيء، وقد ذكره البخاري في التاريخ الكبير بدون ذكر الزيادة الباطلة فقال: في ترجمة مسافع بن عبد الله عن شيبة بن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا شيبة امح كل صورة في البيت".
وأما الخبر الثالث: فإنه أضعف مما قبله لأمرين: أحدهما أنه مرسل, والثاني: أن في إسناده يزيد بن عياض بن جعدبة - بضم الجيم والدال بينهما مهملة ساكنة -. قال الذهبي في الميزان: قال البخاري وغيره: "منكر الحديث"و وقال يحيى: "ليس بثقة", وقال علي: "ضعيف", ورماه مالك بالكذب, وقال النسائي وغيره: "متروك", وقال الدارقطني: "ضعيف", وروى عباس عن يحيى: "ليس بثقة ضعيف"، وروى يزيد بن الهيثم عن ابن معين:"كان يكذب"، وروى أحمد بن أبي مريم عن ابن معين: "ليس بشيء لا يكتب حديثه".
وأما الخبر الرابع: فإنه ضعيف جدا؛ لأمرين: أحدهما: أنه منقطع، والثاني: أن فيه رجلا لم يسم، ومثل هذا لا يثبت به شيء.
الوجه الثاني: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمحو الصور التي في الكعبة وأنه صلى الله عليه وسلم دخلها وما فيها شيء من الصور، قال الإمام أحمد حدثنا روح - وهو ابن عبادة القبسي - حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب يوم الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه" إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا عبد الله بن الحارث - وهو ابن عبد الملك المخزومي - عن ابن جريج أخبرني أبو اليزيد أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصور التي في البيت، ونهى الرجل الذي يصنع ذلك", وأن النبي صلى الله عليه وسلم "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه" إسناده صحيح على شرط مسلم. وقد رواه الإمام أحمد أيضا بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن. ورواه أبو داود في سننه والبيهقي من طريقه وإسناده حسن. وفي هذا الحديث رد لما جاء في الأخبار الأربعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمحو الصور التي في الكعبة ولم يستثن شيئا منها، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أنه صلى الله عليه وسلم وضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها وفي هذا رد على ما جاء في خبر أبي نجيح أنه صلى الله عليه وسلم أرسل الفضل بن العباس فجاء بماء زمزم.
الوجه الثالث: ما ذكره الزرقاني على المواهب أنه وقع عند الواقدي في حديث جابر وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها فقال: "يا عمر ألم آمرك أن لا تدع فيها صورة، قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام". ثم رأى صورة مريم فقال: "امحوا ما فيها من الصور، قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". وهذا ظاهر في شدة إنكاره صلى الله عليه وسلم للصور التي رآها في الكعبة ومنها صورة مريم. ويدل على تشديده في الإنكار ثلاثة أمور: أحدها: إنكاره صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه حير ترك بعض الصور فلم يمحها، والثاني: أمره بمحو الصور بدون استثناء. والثالث: دعاؤه على المصورين.
وفي معنى قوله: "قاتلهم الله" أقوال:
أحدها: لعنهم الله قاله ابن عباس رضي الله عنهما واختاره البخاري.
الثاني: قتلهم الله قال ابن جريج.
الثالث: أنه ليس على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب حكاه البغوي في تفسيره. قال الراغب الأصفهاني: "والصحيح أن ذلك هو المفاعلة, والمعنى صار يحيث يتصدى لمحاربة الله فإن من قاتل الله فمقتول, ومن غالبه فهو مغلوب" انتهى.
الوجه الرابع: أن تصوير الصور واتخاذها من أعظم المنكرات, وتغيير المنكر واجب بحسب القدرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي رواية النسائي: "من رأى منكرا فغيره بيده فقد برئ, ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس غيرة على انتهاك المحرمات وأشدهم في إنكار المنكرات وتغييرها, ومن المحال أن يرى المنكر وهو قادر على تغييره فلا يغيره، فضلا عن أن يأمر بإبقائه, ومن ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببقاء شيء من الصور التي في الكعبة ونهى أن يمحى فقد ظن به ظن السوء.
الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن التصوير كما في المسند وجامع الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك" قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وروى الإمام أحمد أيضا والبخاري في تاريخه بأسانيد جيدة عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن التصاوير". وما كان النبي صلى الله عليه وسلم لينهى عن التصوير ثم يقر بعضه ويأمر بإبقائه، هذا من أبطل الباطل.
الوجه السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عائشة رضي الله عنها ورأى القرام الذي فيه التصاوير هتكه وتلون وجهه, قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: "يا عائشة أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذي يضاهون بخلق الله" رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، وهذا لفظ مسلم. وفي رواية النسائي: "بقرام فيه تصاوير", وفي رواية ابن ماجه: "بستر فيه تصاوير", وفي رواية لمسلم قالت: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي وقد سترت غطاء فيه تصاوير فنحاه فاتخذت عنه وسادتين".
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد هتك الستر الذي في بيت عائشة رضي الله عنها من أجل التصاوير، فكيف يظن به أنه يقر التصاوير في بيت الله تعالى ويأمر بإبقائها.
الوجه السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين وأخبر أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة كما في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "لعن المصورين" رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذي يضاهون بخلق الله" متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم" رواه مسلم.
والأحاديث في الوعيد الشديد للمصورين كثيرة جدا، وقد ذكرتها في (إعلان النكير على المفتونين بالتصوير) فلتراجع هناك.
وإذا تأمل طالب العلم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من لعن المصورين وما ثبت عنه أيضا من الوعيد الشديد لهم لم يشك في كذب ما جاء في الأخبار الأربعة التي ذكرها الأزرقي في تاريخه وتقدم ذكرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف قوله بفعله، ولا يقر المنكر الذي هو من أظلم الظلم ومن كبائر الإثم
الوجه الثامن: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في عدة أحاديث صحيحة أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة. وروى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة
مريم فقال: صلى الله عليه وسلم: "أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم" وهذا الحديث ظاهر في إنكاره صلى الله عليه وسلم لصورة إبراهيم ومريم حين رآهما في الكعبة. وهذا يرد قول من زعم أنه صلى الله عليه وسلم وضع كفيه على صورة مريم وعيس وأمر بإبقائها ومحو ما سواها، وإذا كانت الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه صورة فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يقر صورة مريم وعيسى في بيت الله الذي هو أشرف البيوت وأعظمها حرمة ويأمر بإبقائها ومحو ما سواها. هذا من أسوأ الظن وأبطل الباطل.
الوجه التاسع: ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بإسناد جيد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صورا, قال: فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحو ويقول: "قاتل الله قوما يصورن ما لا يخلقون". وهذا الحديث ظاهر في إنكاره صلى الله عليه وسلم لما رآه من الصور في الكعبة وأنه لم يستثن شيئا منها. وفي هذا رد على من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.
الوجه العاشر: ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه قال: "صنعت طعاما فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع"، ورواه النسائي ولفظه: قال: "صنعت طعاما فدعوت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فدخل فرأى سترا فيه تصاوير فخرج وقال: " إن الملائكة لا تدخل بيتا في تصاوير"، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من بيت علي وفاطمة رضي الله عنهما وامتنع من أكل طعامهما من أجل الستر الذي فيه التصاويرفكيف يظن به أن يقر صورة مريم وعيسى في الكعبة. لا شك أن هذا مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الحادي عشر: ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن أبي هياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته" هذا لفظ إحدى روايات مسلم.
وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه يجب طمس الصور أينما وجدت وفي أي شيء كانت. وفيه أبلغ الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.
وأما ما رواه الأزرقي عن جده قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟، قال: نعم, أدركت فيها تمثال مريم مزوقا في حجرها عيسى ابنها قاعدا مزوقا". قال: "وكانت في البيت أعمدة ست سواري وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب"، قال ابن جريج: فقلت لعطاء متى هلك؟ قال: "في الحريق في عصر ابن الزبير". قلت: أعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان؟ قال: "لا أدري, وإني لأظنه قد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم". قال له سليمان: "أفرأيت تماثيل صور كانت في البيت من طمسها؟" قال: "لا أدري, غير أني أدركت من تلك الصور اثنين درستا وأراهما والطمس عليهما". قال ابن جريج: "ثم عاودت عطاء بعد حين فخط لي ست سواري ثم قال: "تمثال عيسى وأمه عليهما السلام في الوسط من اللاتي تلين الباب الذي يلينا إذا دخلنا".
ثم قال الأزرقي: حدثني جدي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن عمرو بن دينار قال: "أدركت في بطن الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيس بن مريم وأمه".
فجوابه: أن يقال قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يستثن شيئا من الصور. وثبت أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال صلى الله عليه وسلم: "أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم". وثبت أيضا عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صورا قال: فدعا بدلة من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث الثلاثة قريبا. وتقدم أيضا ما ذكره الزرقاني على المواهب أنه وقع عند الواقدي في حديث جابر وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها فقال: " يا عمر ألم آمرك أن لا تدع بها صورة قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام"، ثم رأى صورة مريم فقال: "محوا ما فيها من الصور قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون"..
وعلى هذا فيحتمل أن تكون صورة مريم وعيسى محفورة في عمود البيت بحيث لا يذهبهما الغسل بالماء، فلهذا بقيت إلى أن احترق البيت في عهد ابن الزبير، ويحتمل أن تكون مصبوغة بصبغ ثابت لا يذهبه الماء أو أنه قد ذهب بعض الصبغ حين محيت بالماء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبقي منه بقية تظهر منه الصورة. وقد تقدم عن عطاء أنه أدرك أيضا صورتين من الصور التي كانت في الكعبة وأنهما قد درستا وأنه رأى الطمس عليهما. فلعل صورة مريم وعيسى كانت كذلك. ويحتمل أن يكون قد ألزق عليهم ما يمنع من رؤيتهما فخفيت على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الخلفاء الراشدين وعلى غيرهم من الصحابة ورآها عطاء وعمرو بن دينار بعدما أزيل عنها ما يمنع من رؤيتها.
ويحتمل أن يكون بعض النصارى وضعها بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمان الخلفاء الراشدين، ولا سيما في زمن الفتنة التي كانت في زمن يزيد بن معاوية فقد يتسمى بعض النصارى بالإسلام بحيث لا يرد عن دخول مكة ودخول الكعبة فيصور صورة مريم وعيسى ليفتن المسلمين بذلك ويوهمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر صورتهما، ويحتمل أن يكون ذلك من عمل بعض من أسلم من النصارى بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمان الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم والله أعلم.
وليس في بقاء صورة مريم وعيسى في الكعبة بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يقر المنكر ولا يرضى به وقد قال الله تعالى في صفته {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} (الأعراف: 157).
والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يقر شيئا من الصور أو يأمر بإبقائها، ومن ظن ذلك فقد ظن بالنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به."
وكل الروايات التى ذكرت وجود تماثيل أو رسوم ملونة في الكعبة كاذبة حتى ولو في وردت أى كتاب لتعارضها مع كتاب الله في قوله سبحانه:
" ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم"
فالجملة تقول أنه لا يمكن أن يرتكب أى ذنب كوضع تمثال أو رسم أو غيرذلك لأن العذاب ينزل فورا على من يرد أى يقرر أى بألفاظ الناس يفكر في ارتكاب ذنب فيها فكيف توضع فيها تماثيل أو رسوم أى اى شىء من الذنوب
وأما الروايات المستدل بها على في مجال الصور فكلها تعارض كتاب الله وهى :
-نزول الملائكة في بيوت الرض التى ليس بها صور تعارض أن الملائكة لا تنزل ألأرض لخوفها وهو عدم طمأنينتها كما قال سبحانه:
" قل لو كان فى الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا"
-أشد الناس عذابا المصورون يتعارض مع كون المنافقين هم الأشد عذابا كما قال سبحانه:
" إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"
_ التاريخح الكاذب لحرق الكعبة وهدمها ووضع الكفار فيها ما لا يليق يتعارض مع كون الكعبة حرم آمن لا يمكن أن يحدث فيه أذى للمكان أو لمن فيه كما قال سبحانه:
" ومن دخله كان آمنا"
فهل من الأمن حدوث الحرائق والهدم بالمنجنيق ؟
وقال في أمن الكعبة :
"أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شىء رزقا من لدنا"