عطيه الدماطى
المساهمات : 2111 تاريخ التسجيل : 18/01/2023
| موضوع: مراجعة لكتاب إثبات نبوة النبي (ص) الإثنين فبراير 20, 2023 7:29 pm | |
| مراجعة لكتاب إثبات نبوة النبي (ص) كاتب الكتاب هو عبد الكريم جدبان من اليمن وهذا الكتاب هو مقدمة لكتاب أخر لأحد علماء المذهب الزيدى وهو أحمد بن الحسين بن هارون الحسني وهو بنفس العنوان وهو كتاب طويل نوع ما يرد فيه على الباطنية ممن ينكرون النبوة وفى سبيل ذلك تحدث عن إعجاز القرآن والمعجزات المنسوبة للنبى (ص) في الروايات والبشارات به في كتب السابقين وبالطبع لن نتناول كتاب أحمد الحسنى الزيدى وإنما سنتناول كتاب جدبان حيث تحولت المقدمة لكتاب منفرد في المسألة وقد ابتدأ الكتاب بأنه من حق أى إنسان أن يسأل كل من يقول أنه رسول من الله ما هو الدليل على رسوليتك وعلى الرسول إن كان حقا رسول من الله أن يقدم الدليل وهو قول جدبان حيث قال : "مقدمة " من حق الناس أن يسألوا كل رجل يزعم أنه مرسل لهم من عند الله: ما دليلك على صدق قولك ؟ فإذا قدم لهم الدليل المقنع على صحة رسالته قبلوه واستمعوا له وقد جاء صالح(ص) إلى ثمود يخبرهم بأنه نبي من الله ، ثم يصيح فيهم: { فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون } ولكن ثمود ردوا هذا النصح ، وطالبوا صالحا بالبرهان على أنه ليس شخصا عاديا { قالوا إنما أنت من المسحرين ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم )فكان طلب ثمود معقولا ، ولذلك جاءت الإجابة عليه سريعة وكانت الطريقة التي وجدت وعاشت بها هذه الناقة ، خارقة لما تعارف عليه القوم ودل محياها على أنه أثر لقدرة عليا ، لا لقدر الناس المعتادة وهذا النوع من الاستدلال يقوم على تفهيم الناس أن الشخص الذي يحدثهم لا يمثل نفسه ، ولكن يمثل رب الأرض والسماء لذلك يعمل بقوته المطلقة ، لا بقوى البشر المحدودة ! وقد فزع موسى(ص) إلى هذا الدليل ، لما كذبه فرعون في دعواه أنه مرسل من رب العالمين وتهدده ، { قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين } وكذلك صنع عيسى (ص)عندما عرض نفسه على بني إسرائيل ، فنبأهم بأنه رسول من عند الله سبحانه وتعالى ثم سرد أدلته على رسالته: { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } وقد لوحظ أن أكثر الأمم - برغم ما سبق إليها من آيات باهرة - لم تستجب للحق ، ولم تسلم بدعوى المرسلين ، لا عن قصور في الأدلة التي تسندهم ، بل على عناد وتبجح { إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } " ومن كلام جدبان السابق يتضح أن أدلة الرسل(ص) قبل محمد(ص) كانت الآيات وهى ما نسميها بالمعجزات وهناك دليل أخر أنزله الله في كل وحى وهو حرق القربان حيث قال : "الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين" ومن ثم هناك أدلة مادية تقدم من قبل الرسل (ص) أعطاها الله لهم تدل على رسوليتهم وهى آيات مختلفة من رسول لأخر وأما الآية المتشابهة فكانت هى : القربان المأكول من النار وبين جدبان أن أدلة صدق دعوى الرسولية إما الآيات وهى المعجزات وإما الوحى نفسه حيث قال : "والدليل على صدق أية دعوى قد يكون بأمور خارجة ، أو يكون بحقيقتها في نفسها " وضرب الكاتب مثالا من عالمنا على أن من يدعى كونه مهندسا عليه تقديم دليله وهو بناء شىء كعمارة أو جسر حيث قال : "فقد يزعم أحد الناس أنه مهندس ، ويقول: دليلي على ذلك أني أستطيع السير بقدمي على الماء ، أو الطير بجناحي في الهواء فإذا فعل ذلك سلمنا له ! وقد يقول: دليلي على ما أقول: أني أبني - فعلا - عمارة مدعمة الأركان ، أو أصل بين شاطئين - مثلا - بجسر متين ! فإذا فعل فقد دل بقدرته الهندسية على أنه مهندس يقينا بل قد تستريح النفس إلى هذا الاستدلال أكثر من راحتها إلى البراهين الخارقة الأول " ونقل ابن رشد كلاما في الفرق بين أدلة نبوة الرسل(ص) قبل محمد(ص) ودليل نبوة محمد(ص) حيث قال: "قال ابن رشد: ( إن دلالة القرآن على نبوة محمد (ص)ليست كدلالة انقلاب العصا حية ، ولا إحياء الموتى ، وإبراء المرضى فإن تلك وإن كانت أفعالا لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء ، وفيها ما ينفع الجماهير من العامة ، إلا أنها مقطوعة الصلة بوظيفة النبوة وأهداف الوحي ومعنى الشريعة أما القرآن فدلالته على صفوة النبوة ، وحقيقة الدين مثل دلالة الإبراء على الطب ومثال ذلك: لو أن شخصين ادعيا الطب فقال أحدهما: الدليل على أني طبيب أني أطير في الجو وقال الآخر: دليلي أني أشفي الأمراض وأذهب الأسقام لكان تصديقنا بوجود الطب عند من شفى من المرض قاطعا ، وعند الآخر مقنعا فقط )) ملخصا بتصرف " وهذا الكلام ليس صحيحا فكل الرسل(ص) كان معهم وحى من الله كوحى محمد(ص) ومن ثم فلا يوجد فرق لا في محمد ولا في الناس في مختلف العصور فالمؤمنون يؤمنون دون آيات معجزات فهم يؤمنون بالرسالة لأن العدل وهو الحق واضح فيها لا يحتاج لدليل مادى ظاهر فكلام الله في الوحى في الرسالات المختلفة كلام واحد لا يختلف سوى في أحكام تعد على أصابع اليدين كما يختلف في القصص المحكى فيه فكل كتاب فيه جزء خاص بأحداث عصر النبى المرسل فيه ومن ثم لا يمكن أن نقول أن التوراة أو الإنجيل أو صحف إبراهيم(ص) أو زبور داود(ص) ليس معجزا كالقرآن فطالما كان مصدره واحد فكلامه واحد معجز أو غير معجز حسب من يرون الوحى معجزة وكرر جدبان كلامه فقال : "فالمعجزات إذن قد تكون ذاتية في الرسالة ، وقد تكون خارجة عن جوهرها ، والتفاوت بينها واسع النطاق ، باختلاف البيئات التي ظهرت فيها ، والرسالات التي اقترنت بها وقد كان التعويل في العصور الأولى على الخوارق المادية فحسب ، أما ما تضمنته الأديان من حقائق فكانت منزلته ثانوية حتى جاء الإسلام فغض من شأن الاعجاز المادي ، ونوه بالاعجاز العقلي والقيم المعنوية للرسالات ، وقرر إلى جانب ذلك أن الخوارق التي دعمت بها الديانات القديمة ، لم تمنع التكذيب بها أولا ، فلا معنى لطلب التصديق بها أخيرا ، { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } ومن ثم اتجه تأييد الأنبياء وجهة أخرى " وكلام جدبان هنا باطل فالرسالة في كل عصر هى الأساس وليست أمر ثانوى وليست المعجزة المادية الظاهرة هى الأساس ولذا سمى الله كل الرسالات كتاب واحد هدفه واحد وهو أن يحكم به الرسول قومه فقال سبحانه: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" وكرر جدبان كلامه متحدثا معجزة الرسالة الأخيرة والرسالات السابقة حيث قال : "المعجزة بين الرسالة الخاتمة والرسالات الأولى جرت سنة الله في أنبيائه جميعا أن يؤيدهم بالمعجزات الواضحة ، وأن يسوق بين أيديهم من الخوارق ما يلفت الأنظار ويستهوي الأفئدة ، ثم ما يبني معالم اليقين وعناصر الاستقرار ودواعي الطمأنينة في النفوس وكانت معجزات الأنبياء شيئا آخر غير الرسالات التي يبشرون بها ويدعون إليها فطب عيسى(ص) غير إنجيله ، وعصا موسى غير توراته إلا أن الله شاء أن يجعل معجزة الرسالة الأخيرة شيئا لا ينفصل عن جوهرها ، فجعل حقائق الرسالة ودلائل صحتها كتابا واحدا ، وجعل من أصول الدعوة وأساليب عرضها ، البرهان الأكبر لدعوى الرسالة، والسناد الأعظم لصدق صاحبها فآي القرآن الكريم - بما تتضمن من دساتير العدالة الخلقية والاجتماعية والسياسية ، وبما تغرس في الطبائع من آثار الأدب والتربية والاستقامة - هي هي رسالة الإسلام ومعجزته وأعظم ما في هذه الآيات أن الفطرة الانسانية تجد فيها مجالها الحيوي الفذ ، وتجد في جوها المتنفس الطلق الحر ومن ثم كان القرآن كتابا إنسانيا ، وكان نبي القرآن إنسانا كاملا ، وكانت رسالة الإسلام في موضوعها وأهدافها إنسانية بحتة ولذلك توجه القرآن - مباشرة - إلى العقل البشري يخاطبه ويفك عنه آصاره ، ويرد إليه اعتباره وأكد القرآن أن أصحاب هذا العقل وحده هم الذي يستطيعون فهمه وتبين معانيه ، { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب } بل إن أصحاب هذا العقل وحده ، هم الذين يفهمون رسالة الوجود ، ويفقهون أسرار الكون ، { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }فلتكن إذا معجزة نبي الإسلام عقلية ، وما دام البشر يحترمون عقولهم ، فستبقى لهذه المعجزة قيمتها ، أجل ستبقى لهذه المعجزة قيمتها ما بقي العقل أنفس شيء في الحياة ، وما استلهم الناس عقولهم في الحكم على الأمور ، وفي قيادة الانسانية إلى آفاق الترقي والكمال " وهذا الكلام من جدبان عن الفرق بين الرسالات هو باطل ليس عليه دليل من كتاب فمن قال أن الناس لم يكن لديهم عقول كعقول الناس في عهد محمد0ص) وما بعده ؟ إن نفوس البشر في كل العصور واحدة بما فيها من عقل وشهوات ولذا قال سبحانه: " وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" والكلام لو عقل جدبان لكان اتهاما للرسل(ص) والمؤمنين بهم أنهم غير عقلاء وهم عند الله عقلاء كالمؤمنين في عهد محمد(ص) وما بعده ولو راجع كلام الله في منع الايات وهى المعجزات لوجد أن سبب منعها في عهد محمد(ص) كان هو أن الكل كذب بها ومن ثم من بعدهم سيفعل مثلهم ومن ثم لم يستعملها في عهد محمد(ص) بقوله: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون" وتناول جدبان كون القرآن معجزة وهو مقولة ليست من كتاب الله ولا هى موجودة في الروايات المنسوبة للنبى(ص) وإنما هذه المقولة اختراع بشرى من قبل الفقهاء بعد نزول القرآن بقرون عديدة وقد تناول حدوث معجزات في عهد النبى(ص) ومن معه اعتبرها جدبان ثانوية حيث قال : "مقترحات كافرة: غير أن هذا المنطق لم يكن ليلقى القبول الواجب له عند أعراب الجزيرة ، وبقايا القرون الأولى ، وصرعى الأوهام والخيالات إذ كان أقصى ما يفكر فيه هؤلاء أن يشاهدوا خارقا يقلب البر بحرا ، أو الخصب جدبا وعندئذ يلقون السلم ويدخلون في الاسلام ، ولم يكن شيء من هذا الذي اقترحوه عزيزا على قدرة الله ولكن حكمة الله أبت إلا أن تتعالى بقيمة العقل الإنساني الذي أرخصوه ، وإنه لعزيز على هذه القدرة العليا أن تعطي الإنسان عقلا يصنع المعجزات - إذا ما اعتني به والتفت إليه - ثم تترك هذا الذي أعطت يضيع عبثا ، وتستجيب لرغبات الجاهلين الذين سفهوا أنفسهم وأفكارهم ، وأبوا تحكيم مشاعرهم وعقولهم ، وطالبوا بمعجزات مادية ، قليلة أو كثيرة لتصديق نبيهم وكان لا بد في معاملة أولئك القوم من سلوك منهج يرغم آنافهم على احترام العقل الإنساني ، لمصلحتهم ولمصلحة الأجيال من بعدهم !! ولذلك تقرر أن تكون المعجزة الكبرى لمحمد صلوات الله وسلامه عليه هي هذا القرآن الكريم فيه كان التحدي ، عليه كان الرسول يعتمد في سيرته ، مع خصومه وأصحابه طول حياته ومن بعده ظل القرآن كتاب الاسلام الناطق بدعوته وحجته معا إلا أن الحكمة الإلهية اقتضت أن تبث في طريق الرسول أنواعا من الخوارق التي أيد بها النبيون الأولون ، فجاءت هذه الخوارق تحمل طابعا خاصا ، ينبغي أن نعرفه حتى لا نتجاوز به حدوده الصحيحة هذه الخوارق ثانوية الدلالة في تصديق النبوة والشهادة لها ، والطريقة التي أرسلت بها من عند الله ، تشير إلى أن الحكمة الإلهية لم تعلق عليها كبير أهمية ، ولم تغض بها من قيمة المعجزة العقلية التي انفرد الرسول بها فقد حدثت جملة من هذه الخوارق بين المؤمنين ، الذين استقر الايمان في قلوبهم فعلا ، والذين سبق لهم تصديق النبي (ص)في دعوته ، لأنهم أعملوا عقولهم واحترموا إنسانيتهم ، وحدث بعض آخر أمام أعين الكافرين بيد أن الصورة التي تم بها تثير الدهشة ، إذ كانوا يقترحون معجزة فتأتيهم أخرى ، أو يأتي ما يقترحون بعد سنين طوال ، وعلى وجه يبدو منه أن إجابتهم إلى ما طلبوا لم تقصد أصلا ، وربما تهمل مقترحاتهم كلها، فلا ينظر لها قط ، فما معنى ذلك ؟ وما السر فيه ؟!" وتصحيحا لكلام جدبان عن وقوع معجزات رآها المؤمنون بمحمد(ص) في عهده أقول : المعجزات التى حدثت في عهد محمد(ص) رآها واحد فقط هو محمد(ص) نفسه وهى معجزة الإسراء والمعراج حيث ذهب للسماء فرأى من آيات ربه الكبرى ولم يذهب معه أحد ولا رأى شىء ومعجزة الهجرة وأما المعجزات التى حدثت مثلا في انتصارات المسلمين فهى كما قال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها" فالجنود غير المرئية لم يراها لا مسلم ولا كافر وكذلك في معجزة الهجرة لم ير صاحبه ولا الكفار أى معجزة كما قال سبحانه: " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها" ومن ثم كل الروايات التى تقول بحدوث معجزات شاهدها مؤمنون أو كفرة هى تكذيب لقوله سبحانه : " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون" فالمعجزات منعت عن الناس مسلمين وكفار وتناول جدبان حقيقة المعجزات الظاهرة حيث قال : "حقيقة الاعجاز المادي بين الله عز وجل أنه فصل في كتابه كافة أسباب الايمان وأسانيد النبوة ، ولكن الناس أبوا الرضى بهذا اللون من الاقناع { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا }، وماذا بعد أن كفروا ؟ طلبوا أشياء معينة ، زعموا أنها - وحدها - هي التي تدعوهم إلى الإيمان ، { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء } إلخ ودعك من المطالب التي أملاها العناد والسخف من سلسلة هذه المقترحات الطويلة ثم تأمل أتفجير ينبوع من الأرض ينظر إليه البشر على أنه عمل تنزل قوى من السماء لاتمامه ؟ فما هو إذا عمل القوى الانسانية ؟ إن المرء في طفولته يعتمد على أبيه دائما في جلب كل خير وإتمام كل عمل ، أفليس من حق الأب إذا رأى ابنه جاوز الطفولة أن يضربه على يديه ، ويتركه يتجشم وحده مشقة السعي ، واقتحام المستقبل ، وتحمل أعباء الرجولة ؟! هكذا صنع الله مع عباده ، لقد أرضى الإنسانية في طفولتها بألوان صارخة من الخوارق ، حتى إذا اشتد عودها واستوى فكرها ، تركها لتستخدم مواهبها الفكرية ، ولتتبين الصواب والخطأ فإما هلكت عن بينة ، أو نجت عن بينة ويوم أن تعرف البشرية (( العقل )) في قبول دين أو رفضه ، فستعرف من تلقاء نفسها كيف تستغل هذا العقل في تفجير الينابيع ، وتحويل رمال الصحراء إلى حدائق غناء وهذا بعض ما طلب أعراب الجزيرة من رسول الله (ص)ليصدقوا رسالته وقد طلبوا منه أن يرقى في السماء ، ولكن الله أحب أن يكشف لهم عن سقم البواعث التي توحي بهذه المطالب ، وأن يثير فيهم الإيمان بإنسانيتهم المهدرة ، وأن يرد الحرمة إلى عقولهم المحتقرة ، وأن يعلمهم تكريم البشرية المجردة بالإيمان بني البشرية ، المبعوث لمد ضيائها وبسط روائها ولذلك يهتف القرآن عقب هذه المقترحات: { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } وقد حدث بعدئذ أن رقي النبي (ص)في السماء ليلة الإسراء ، بعد تقديم هذه الاقتراحات بأمد طويل ، فكان وقوع الارتقاء على هذا النحو ، دليلا ناطقا على أن الحكمة الإلهية لم تكترث قط بمطالب الكفار ، ولم تعرها أية قيمة ، بل جاء الرقي في السماء ليلة المعراج ، مظهر تكريم بحت من الله لنبيه ، لم تنزل به الإرادة العليا على رغبة بشر ، ولم يرتب على إيقاعه ما يترتب - غالبا - على وقع التحدي ، من إيمان أو كفران ، بل تركت مسألة اتباع النبي (ص)أو التخلف عنه ، موكولة إلى المعجزة العقلية الفريدة ، معجزة القرآن الكريم ، { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } وقد أقسم المشركون مرة أنهم يؤمنون لدى أية معجزة مادية تقع ، كما يضرب الشاب لوالده أن يرضي نوازع طفولته ثم يسمى بعدئذ رجلا ! فأبى الله إلا أن يردهم إلى أفئدتهم وأبصارهم ، يتعرفون بها الحق ويثبتون بها عليه ، فإن معجزات الأرض والسماء لا غناء فيها إن لم يستنر القلب والعقل بما أودع الله فيهما من نور ، { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } ويزيد هذا المعنى جلاء ، قول القرآن في تصوير موقف الكافرين ، وبيان ما انطوت عليه أفئدتهم وأبصارهم من عناد وغباء ، { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون } [الحجر] فماذا تجدي المعجزات المادية مع هؤلاء ؟! وهم إنما ضلوا لاستغراق قلوبهم وعقولهم ، وهم لو تفتحت قلوبهم لاكتفوا بالقرآن آية لا تعلوها آية ، ومعجزة لا تدانيها معجزة ، { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم } " جدبان صدق في المقال السابق ما يسمونه نظرية التطور التاريخى بمعنى أن الناس في البداية لم يكونوا يتكلمون وكانوا عرايا ولا يعرفون قراءة وكتابة وبعد ذلك تطوروا من الأكل من ثمار الغابات والصيد إلى ما يسمى الزراعة البدائية والمتنقلة ثم تقدموا إلى عصر المعدن فصنعوا آلاتهم وعرفوا القراءة والكتابة وهو ما سماه مرحلة الطفولة وهو كلام يكذبه كون الإنسان ألأول آدم(ص) كان أعلم البشر لأنه الله علمه القراءة والكتابة وكل المعارف التى يحتاجها البشر في حياتهم حيث قال : "وعلم آدم الأسماء كلها" وماذا نقول مثلا عن مخاطبة عقول بنى إسرائيل وهم سابقون على محمد(ص) زمنيا بقرون في قوله سبحانه: "فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون" وماذا نقول عن مخاطبة هود(ص) عقول قومه وهم قبل الكل بقرون متطاولة في قوله سبحانه: "يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرنى أفلا تعقلون" وتناول جدبان كون النبى الأخير (ص)إنسان حيث قال : "النبي الانسان ولئن كان القرآن هو الكتاب الذي يصور للإنسانية آفاق كمالها ، إن محمدا صلوات الله عليه وسلامه هو الرجل الذي حقق في شخصه وفي آثاره أعلى ما تنشده الانسانية من مثل ، فقد رفع شأن (( الضمير )) عندما أعلن أن التقوى تستقر في القلوب الزكية ، ولا تغني عنها قشور العبادات ، وثبت قيمة العقل وجعله أصل دينه ، وأسس عليه المسلمون حضارة متشعبة الثقافات والفنون ، وصلت ما انقطع من تراث الانسانية الفكري ، وكانت البذور المنتجة التي أورثت العالم حضارته الحديثة ثم إن هذا النبي (ص)هو المحرر الأول للانسان ، والمقرر الأول لحرية العقل والضمير لقد جعل الكون كله مسخرا لنشاط الانسان الذهني والبدني ، وجعل الانسان سيدا في نفسه ، سيدا لعناصر هذا العالم ، عبدا لله فقط ، فلا سلطة البتة لدهاقين السياسات والديانات ! ونبي الاسلام عربي ، ولكن الدين الذي جاء به لا جنسية له ، وأي جنسية لدين يخاطب العقل حيث كان ؟ ويبني أدلته على النظر في فجاج الأرض والسماوات ؟!" هذا الكلام هو تخريف تام نتبع فيه كلام الكفار من الغرب عن الحرية فمحمد(ص) ما جاء ليحررنا لأننا أصلا ومعنا هو عبيد كما قال سبحانه: "سبحان الذى أسرى بعبده ليلا" وقال " " تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا" محمد(ص) أتى لكى نكون عبيدا لله كما يجب أو على حد تعبير صحابى : " لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد " وإنسانية محمد(ص)هى إنسانية كل رسول وكل إنسان جاء قبله او معه أو بعده والإنسانية التى يعتبرها الرجل شىء عظيم هى التى استدل بها الكفار السابقون على عدم رسولية الرسل(ص) السابقين عندما قالوا كما قص علينا الله : "قالت رسلهم أفى الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده" وتناول الفارق بين النبوة والعبقرية حيث قال : "بين النبوة والعبقرية: تاريخ البشر حافل بأسماء الكثيرين من أصحاب المواهب الرفيعة ، والكفايات الضخمة وعتهم الانسانية في ذاكرتها ، وسجلت لهم في صحائف الخلود ما قاموا به من أعمال جليلة ، وروت للأجيال آيات مجدهم ، وآثار نبوغهم ، لتكون منه عبرة حافزة والعظمة قدر مشترك بين ألوف من الناس ، ظهروا في شتى الأعصار والأمصار ، ودفعهم امتيازهم المعنوي إلى اعتلاء القمة ، إلا أن العظماء يتفاوتون فيما بينهم تفاوتا بعيد المدى ألا ترى كواكب السماء ونجومها ، إن بعضها أكبر من الآخر ألف ألف مرة ؟! ومع ذلك فالدراري الصغيرة ليست من الحصى والجنادل ! فإذا فحصنا تواريخ العظماء ، وفيهم الأنبياء من مبلغي الوحي ، وفيهم الفلاسفة من قادة الفكر ، وفيهم المخترعون من علماء الكون ، وفيهم الزعماء من قادة الجماهير ، وفيهم الأدباء من حملة القلم ، وفيهم ، وفيهم فإن هذا التمحيص وما يستتبعه من موازنة وترجيح ، لا يميل بقدر أحد من أولئك العظماء ، من الحد الذي يهوي فيه إلى منازل السوقة العباقرة كثيرا ما تكون العظمة امتدادا في موهبة من مواهب النفس ، بل كثيرا ما يكون هذا الامتداد على حساب المواهب الانسانية الأخرى فإما أصابها بالضمور والشلل ، وإما رد النواحي الأخرى من شخصية العظيم إلى مثيلاتها في سائر الناس ، بل قد تكون أبعد سقوطا وأشد ضراوة !! ومن هنا لا تعدم في سيرة كل عظيم من أولئك المشهورين نقطة سوداء وجانبا غائما كان نابليون قائدا محنكا مسعر حروب ، ولكنه كان ساقط الخلق ، فاحش الغدر وكان جان جاك روسو أديبا ثائرا ، من أعظم واضعي دساتير الحرية في العالم ، ولكنه كان معوج السلوك ، هزيل الشرف وكان بسمارك داهية في السياسة لا يبارى ، وكان كذلك كذابا مزورا وهناك من الفلاسفة والشعراء ، والمفكرين والمخترعين ، من تفجئك في أحوالهم وأعمالهم أمور شائنة ، تستغرب كيف يصدر مثلها عنهم !! وهم - مع هذا كله - عباقرة ، لأن انتاجهم العلمي والأدبي ، وتراثهم الرائع الفريد ، يسمو بهم فوق مستوى العامة ، والذين طهرت سيرهم من هذه الشوائب ، تراهم مبرزين في ناحية ، ومعتادين في ناحية أخرى ، أو مرضى بما يفسد عليهم أفكارهم فأبو العلاء الأديب الرقيق المتشائم ، لو وهب معدة قوية ، أو بصرا حادا ، لكان لفلسفته اتجاه آخر غير التبرم بالدنيا ، وتسخط الوجود فيها ومن أعظم زعماء العلماء من تراه أسير عقدة نفسية ، أو شذوذ جنسي ، أو أثرة حادة ! ومنهم المصابون بجنون العظمة وتقديس الذات ، وكراهية شيء معين أو محبته ! ولذلك تتسم حياتهم بالنقائض الموزعة على جانب مستور منهم ، وجانب مكشوف للجماهير ، لا غبار عليه وقد اعتبرت الحضارة الأوربية هذا التناقض شيئا عاديا مألوفا ، ومن ثم أباحت للعظماء أن تكون لهم شخصية مزدوجة ، ورأت أن تنتفع الأمم بمواهبهم ، وأن تتجاوز لهم عن سقطاتهم والانجليز يعرفون أن (( نلسن )) مات وهو يختلس عرض غيره ، ولكنهم يغضون الطرف ويعرفون أن (( تشرشل )) خان عهودا شخصية واجتماعية ، بيد أنهم يتعامون عنها فلندع هذا الفريق المعدود من زعماء العالم ولنرتفع أجل لنرتفع كثيرا ، لنصل إلى مستوى أكرم وأطيب ، ولنتكلم عن صنف آخر هم الأنبياء لئن كانت العبقرية امتدادا في موهبة واحدة ، أو في جملة مواهب ، إن النبوة امتداد في المواهب كلها ، واكتمال عقلي وعاطفي وبدني ، وعصمة من الدنايا ، ورسوخ في الفضائل ، وعراقة في النبل والفضل هم الرجال المصابيح الذين هم كأنهم من نجوم حية صنعوا أخلاقهم نورهم من أي ناحية أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا فالذين يرشحون للنبوة يصطفون لها اصطفاء قلوب نقية تربطها بالملأ الأعلى أواصر الطهر والصفاء وعقول حصيفة ناضجة ، لا تنخدع عن حقائق الأشياء ، ولا يصيبها ما أصاب كبار الفلاسفة ، من شرود وعماء وأجسام مبرأة من العلل الخبيثة ، والأمراض المشوهة أو المنفرة وصلة بالناس قوامها البر والخير فليس يتصور في حق نبي لله ، أنه أخل بحق المروءة والفضل ، بله أن يرتكب ما يخدش الشرف ، أو يقدح في العصمة ! ثم إن الرسل أمناء على الوحي السماوي ، والهداية الاسلامية ، فكلامهم حكمة ، وحياتهم أسوة ، سريرتهم وعلانيتهم سواء ، ليست لأحدهم صفة مطوية ، وصفحة مكشوفة طرائق معيشتهم الخاصة كمناهج دعوتهم العامة ، تنضح عفافا واستقامة ظلوا بين الناس ما شاء الله ، فكانت مجتمعاتهم بركة ، ثم قبضوا فخلفوا أقدس مواريث ، وأقدس تركة ، وحسبك أنهم خيرة الله من خلقه ، { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [الأنعام ] ، { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور } " المقارنة بين الرسل(ص) ومن سماهم عباقرة مقارنة لا تصح فهؤلاء اصطفاهم الله وهؤلاء لم يختارهم الله ومن ثم لا يمكن أن تقارن رجال الرسالة برجال كان همهم في الدنيا متاعها وظلم غيرهم ولذا قال سبحانه: " أفنجعل المسلمين كالمجرمين" وتناول جدبان مسألة أخرى لا يجب أن يتكلم فيها المسلم من عنده دون نص من الوحى وهى التفرقة بين الرسل(ص) في المكانة حيث قال : "وأقدار الرسل تتفاوت سناء وسموا فالرسول في قبيلة محدودة ، أفضل منه الرسول لمدينة فيها مائة ألف أو يزيدون ، أفضل منه الرسول لشعب بأسره وصاحب الكتاب المستقل أفضل ممن يحكم بشريعة سابقة ، ولا نزال نرقى في مراتب العظمة ، ولا نزال نحلق صعدا نحو القمة ، ولا نزال نقطع أشواطا بعد أشوط في مدارج الكمال البشري ، حتى نصل إلى مستوى تنحسر دونه أبصار العباقرة مهما طمحت ، وتتطامن عنده أقدار الأنبياء مهما عظمت ، لنجد صاحب الرسالة العظمى إلى خلق الله قاطبة ، ملتقى الفضائل المشرفة ، ومظهر المثل العلياء ، التي صورتها الخيالات ثم صاغها الله انسانا يمشي على الأرض مطمئنا ذلكم هو محمد بن عبد الله (ص)، وذلكم منزله بين عباقرة الأرض وأمناء الوحي ! أفق للمجد يزهو على كل أفق ، وتسطع فيه أشعة متموجة تنطلق بالحب والحنان والرحمة ، والعقل والفراسة والحكمة هيهات هيهات أن يدرك كنه ذلك أحد ، فالعظيم لا يعرفه إلا عظيم مثله ، ومن كمحمد في الناس كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء لم يساووك في علاك وقد حال سنا منك دونهم وسناء" كل من يطرح مسألة كون النبى فلان أحسن من فلان بسبب ودون سبب مخطىء لأن عقيدة المسلمين التى قصها الله علينا في القرآن هى : " لا نفرق بين أحد من رسله" فالمسلمون لا يفرقون بين محمد(ص) وبين غيره من رسل الله (ص) في المكانة وحتى عدنا للروايات سنجدها متناقضة فالرواية التى تقول " انا سيد ولد آدم" تجد رواية مناقضة لها تقول" لا ينبغى لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" كما نجد رواية أخرى تقول " يا خير البرية قال ذاك إبراهيم" إذا نصوص الروايات متناقضة وكلها أو معظمها فيما يسمى كتب الصحاح ومن ثم لا يبقى لنا من حكم عدل سوى القرآن وليس فيه نص يحدد من افضل من من وإنما النص الموجود هو : لا نفرق بين أحد من رسله " والنص الأخر ليس فيه تفصيل من أحسن من وهو : " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وأتينا داود زبورا" ومن ثم فالفضل ليس في المكانة وإنما التفاضل في عدد ما أتى الله كل نبى من النعم وفى ختام الكتاب تناول نفس المسألة عن تفضيل النبى الأخير(ص) على من سبقوه حيث قال : "مسك الختام كان المرسلون الأولون مصابيح تضيء في جوانب الليل الذي ألقى بجرانه على أنحاء الدنيا ، فلما بدأ فجر الانسان ينشق عنه الظلام ، وبدأت أشعة الرسالة العامة تتهادى في الأفق ، انتقل العالم من عهد إلى عهد لا تذكروا الكتب السوالف قبله طلع الصباح فأطفأ القنديلا والكلام في عظمة الشخصية التي حملت عبء هذه الرسالة يطول ، وحسبنا أن الله عز وجل جمع في سيدنا محمد (ص)من شارات السيادة والنبالة ، ما تفرق في النبيين من قبل ولقد ذكر الله أسماء ثمانية عشر نبيا ، فيهم أولو العزم وأصحاب الرسالات الأولى ، ثم قال: { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين } وهذا الأمر بالاقتداء كان ماثلا في ذهن النبي (ص)وهو يقوم بتبليغ الدعوة فلما طعن أحد المنافقين في تصرف له وهو يقسم الغنائم قائلا: هذه قمسة ما أريد بها وجه الله كظم النبي (ص)غيظه وقال: (( رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )) ومن ثم قال المفسرون في شرح هذه الآية: إنها تومئ إلى فضل الرسول (ص)على من سبقه فإن خصال الكمال التي توزعت عليهم ، التقت أطرافها في شخصه الكريم كان نوح صاحب احتمال وجلد وصبر على الدعوة وكان إبراهيم صاحب بذل وكرم ومجاهدة في الله وكان داود من أصحاب الشكر على النعمة وتقدير آلاء الله وكان زكريا ، ويحيى ، وعيسى من أصحاب الزهادة في الدنيا ، والاستعلاء على شهواتها وكان يوسف ممن جمع بين الشكر في السراء والصبر في الضراء وكان يونس صاحب تضرع وإخبات وابتهال وكان موسى صاحب شجاعة وبأس وشدة وكان هارون ذا رفق حتى تنظر إلى سيرة محمد (ص)بعد هذه السير السابقة ، فتراها كالبحر الخضم تصب فيه الأنهار فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم" وهذا الكلام سبق تناوله وبيان كونه باطل يتعارض مع كتاب الله فهو مجرد استنتاجات فلا يوجد نص صريح يقول محمد(ص) أفضل الرسل ولا العكس وكعهد كتاب عصرنا كالعقاد في كتب العبقريات وغيره في كتب البطولات نجد جدبان يعيد لنا كل هذا الهراء ليعيد ذكر مسألة التفضيل بألفاظ مغايرة حيث يقول: "موئل البطولات من ذوي المواهب من يعيشون في عزلة قصية عن الجماهير ، ويؤثرون البقاء في البرج العاجي ، عما تستتبعه مخالطة الناس ، من سخط وتبرم ومنهم من يلقي بنفسه في معترك الحياة ومعه عدة النجاح ، مع عمق النظرة ، وذكاء الفكرة ، والبصر النافذ إلى أدواء الشعوب وأدويتها غير أنه مع هذه المواهب الجليلة ضيق العاطفة ، لا يألف إلا القليلين ممن هم على شاكلته في المزاج ، أو من يتفقون معه في الأهداف ومن العظماء من أوتي امتدادا في شخصيته ، وبسطة في مشاعره ، تجرف الناس إليه ، وتعلق القلوب به ولسنا نقصد بهذا قوة السيطرة على العامة ، والقدرة على تحريكهم وتسخيرهم ، كلا كلا وإنما نقصد هذا النوع من العظماء الذي يلتف به أصحاب الكفايات الكبيرة ، ويرمقونه بالإجلال ، ويقدمونه على أنفسهم ، عن طواعية واختيار وقد ظهر أفراد قلائل من زعماء الشعوب على هذا الغرار الفذ ، وتركوا في تاريخهم أثرا لا يمحى على أن الانسانية لم تعرف في ماضيها الطويل - ولن تعرف - رجلا وقره الأبطال وكرمه العظماء ، وانطبعت محبته في شغاف القلوب ، كما عرف ذلك في النبي الكريم ، محمد (ص) كان أصحاب الشجاعة في القتال يحبونه ، لأنه أشجع منهم حين تحمر الحدق ويشتد البأس وكان أصحاب الحذق في السياسة والتدبير يحبونه ، لأنهم يرونه أكثر منهم مرونة ، وأرحب أفقا وكان الأجواد الأسخاء يرونه وقد ملك واديا من الإبل والغنم ، فما غربت عليه الشمس إلا وهو منح وهدايا للطالبين والراغبين وكان العباد يرونه صواما قواما ، والزهاد يرونه عفيفا مترفعا ، وأصحاب البيان واللسان يرونه فصيحا معربا حتى المعجبون بالقوى المادية ، كانوا يرونه مصارعا يهزم العمالقة وهكذا ما عرف أحد من العظماء ميزة في نفسه يفخر بها ، إلا وجد رسول الله (ص)على خلق أعرق منها وأرقى ولذلك يرفع إليه بصره مثلما يرفع الناس أبصارهم إلى القمم الشواهق التي لا تنال ! ومع هذا الجلال الفارع ، وذلك الامتياز الرائع ، فقد كان هذا الرسول الأمين قريبا بسهولة طبعه من كل فرد ، فما يعز مناله على أرملة أو مسكين ، بل بلغ من اتساع عواطفه وتدفق مشاعره ، أن كل فرد كان يحس في نفسه أنه آثر الناس عند رسول الله ، وأقربهم إليه ، وأعزهم عليه كالشمس ترسل أشعتها فيستمتع الجميع بها ، ويأخذ كل امرئ حظه من الدفء والحرارة والمتعة ، لا يحس بأن أحدا يشاركه فيها ، أو يزاحمه عليها كذلك كان محمد (ص)مع صحابته ، يأوون من نفسه الكبيرة إلى كنف رحيم " وبعد كل هذا الكلام المادح للنبى الأخير(ص) مفرقا بينه وبين اخوته من الرسل(ص) تناول موضوع العبقرية راضيا بإطلاق لفظ عبقرى على حذر حيث قال : "الوصف بالعبقرية يقولون: إن النبوة هبة لا كسب ، وفضل يغدق ، لا نصيب يطالب به ويسعى إليه ، وهذا حق { أهم يقسمون رحمة ربك } ، { أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين } بيد أن هذا الخير لا ينزل اتفاقا ، ولا يدرك اعتباطا ! وقد حاول شاعر في الجاهلية - بكثرة الكلام في الإلهيات - أن يكون نبيا ففشل ، وتوقع نفر من الأحبار والرهبان أن يصيبوا هذا الشرف ، ففاتهم مع تشوقهم إليه ورغبتهم فيه إن الله سبحانه وتعالى يختار لهذا المنصب العظيم أهله !! ومن ظن أن العصمة تمنع المحنة والابتلاء ، أو أن الرسل الكرام ليسوا أكثر من حملة وحي ، وظيفتهم التبليغ المجرد ، كأن أحدهم مكبر صوت تنفخ من ورائه الملائكة ، فليست له مواهب ، ولا استعداد خاص ، ولا امتيازات رفيعة من ظن ذلك فقد ضل في فهم المرسلين ، وجهل ما حباهم الله به من خلال ، تجعل أعظم فلاسفة الأرض لا يصل إلى مصاف أقدامهم إن الكتاب الذين ألفوا في سيرة النبي (ص)ووصفوه بالعبقرية ، يمكننا أن نقبل منهم هذا الوصف بحذر وبقدر نقبله إذا كان القصد منه كشف النقاب عن معالم العظمة الشخصية ، وإلقاء ضوء على البطولة الأدبية لأولئك المصطفين الأخيار ونقبله إذا كان القصد منه الاعتراف بمبدأ الوحي الذي يصل المادة بما وراء المادة ، وهذا هو أساس النبوة الأول ونرفضه إذا كان وصفا لعظمة إنسانية معتادة ، تسلك صاحبها مع غيره من رجال التاريخ البارزين ذلك موقف المسلم من جمهرة المؤلفين والمؤرخين ممن كتبوا في حياة النبي الأمين " | |
|