مراجعة لمقال الجدة موسز .. قصة نجاح بعد الثمانين!
الكاتبة هي نوار من سوريا وموضوع المقال هو أن الكثير من الأفراد لديهم مواهب تظهر في الصغر ولكن نتيجة ضغوط الحياة فيما بعد يتوقفون إما عن ممارستها وإما لا يجدون من يرعاها فيهم ويظلون يمارسونها دون أن يعرف بهم أحد
يحكى المقال حكاية الجدة موسز التي كانت لديها موهبة الرسم حيث قال:
"لو كان لديك حلم فلا تقل ابدا أنَّ الأوان قد فات
هناك مواهب دفينة لدى قسمٍ كبيرٍ من البشر، مواهب تنتظر أن يُلقي عليها أحدهم الضوء لتظهر للعيان، لكن لو نشأت هذه المواهب في بيئةٍ محطِّمةٍ للإبداع، بيئةٍ مهملة غير مشجِّعة فإنَّها ستبقى سجينة وستموت، و لعلَّ أغلب من يقرأ هذه السطور لديه موهبةً تتطلَّع للخروج إلى النور لكنها تصطدم بالواقع الذي لا يشجِّع سوى على الانزواء والانغلاق على النفس للهروب من هذه الفوضى التي تعم سائر بلداننا المنهكة من القتل و الحروب والدمار. لكن، لندع واقعنا العربي الآن ولنذهب إلى إحدى المزارع التي تقع على أطراف مدينة نيويورك، حيث وُلِدَت هناك الرسَّامة الشعبية الأمريكية التي عرفت بـ " الجدة موسز " والتي تمثِّل قصتها خير دليلٍ على أنَّ الأحلام لا تموت حتى وإن بلغ المرء من العمر عتيَّاً ..
نشأتها وطفولتها:
الجدة موسز في طفولتها اسمها آنا ماري روبرتسون، ولدت عام 1860 في مزرعة قريبة من مدينة نيويورك في عائلة تعدادها كبير، حيث كان لها أربع شقيقاتٍ وخمسة أشقاء، نشأت في بيئةٍ ريفيةٍ محدودة الطموح، تلقَّت تعليماً بسيطاً لفترةٍ قصيرة من حياتها مارست خلاله الرسم معتمدةً على ألوانٍ بدائية الصنع، لكن سرعان ما شغلتها ظروف الحياة القاسية عن ولعها بالرسم حيث كان جلُّ همها أن تستيقظ باكراً لتباشر أعمالها اليومية التي أُلقيَت على كاهلها في سنٍّ مبكرةٍ جداً، فقد تركت منزل أهلها في عمر الثانية عشرة لتعمل في البيوت المجاورة لمنزلهم كمدبرة منزل.
شبابها وزواجها
بقيت آنا ماري تخدم الأسر الغنيَّة وتقوم بأعمال الطهي والخياطة لمدة خمسة عشر عاماً، إلى أن التقت في عام 1887 بـ توماس موسز وتزوجت به واستقرت معه في فرجينيا، حيث عملا بالفلاحة في عدَّة مزارع هناك لها خمسة أطفال وفي المقابل خسرت خمسة آخرين بعد ولادتهم ..
عادت في العام 1905 إلى نيويورك - مسقط رأسها - برفقة زوجها، وأداروا هناك إحدى المزارع، كانت موسز مبدعةً في بيتها وزينته بأعمالها الفنية حيث مارست الرسم بطريقة أخرى وهي التطريز، فقد كانت تنشئ رسوماتٍ وصوراً من خيوط الغزل وكل من رآها من الأهل أو الأصدقاء أُعجِب بها
العودة إلى ممارسة الرسم
فى عام 1927 توفّي زوج السيدة موسز نتيجة إصابته بأزمةٍ قلبية، فبقيت موسز تعمل في المزرعة، إلا أنه مع تقدّمها في السن وجدت نفسها لم تعد قادرةً على أعمال الفلاحة التي تتطلب جهداً كبيراً، فتولَّى ابنها وزوجته إدارة المزرعة بينما أخذت هي تشغل وقت فراغها بالتطريز، لكن في سن السادسة والسبعين أصيبت بالتهاب مفاصل منعها من الخياطة، فعرضت عليها شقيقتها أن تمارس الرسم بدلاً عنه، وهنا تم إيقاظ تلك الموهبة الغافية التي تتمتع بها موسز وشغلتها عنها أعمال الفلاحة وظروف الحياة الصعبة على مدار أكثر من سبعة عقود ..
و أخيراً، الموهبة تخرج إلى النور
امتازت رسومات موسز ببساطتها وواقعيتها، كانت تحب أن تصوِّر من خلال لوحاتها الطبيعة بمختلف فصولها والحياة الريفية في أمريكا والأعياد الشعبية ومناسباتٍ أخرى استمدَّتها من ذاكرتها وطفولتها، وعلى الرغم من بساطة لوحاتها التي قد ينتقدها البعض بأنها غير احترافية، إلا أنها تشعر الناظر إليها بالحميميَّة والحنين، وهذا ما جعلها محببة إلى النفس.
في البداية كانت تعرض رسوماتها على أهلها وأصدقائها، ومن ثم بدأت ببيعها على المحلَّات والمتاجر المجاورة، وتتراوح أسعار لوحاتها بين دولارين إلى عشرة دولارات للوحة الصغيرة، وقد يصل ثمن بعض لوحاتها إلى مبلغ 55 دولار.
لم يتوقَّف الأمر على انتشار لوحات موسز على الصعيد المحلَّي فحسب، بل جاءت الشهرة تسعى إليها سعياً في عام 1938 من خلال السيد لويس كالدور، وهو أحد المهتمّين بالفن، حيث شدَّت انتباهه إحدى لوحاتها المعلَّقة في جدار صيدلية، فأعجب بها وسأل عمَّن رسمها، قاده السؤال للذهاب إلى مزرعة الجدة موسز، وهناك عرضت عليه الجدّة الطيّبة المزيد من اللوحات فاشتراها جميعها، وفي عام 1939 وضع لها ثلاث لوحات في معرض للرسامين المغمورين في متحف الفن الحديث بنيويورك ومن هذا المعرض لمع اسم الجدة موسز في سماء الفن، حيث أُعجب الجميع بموهبتها.
وبعدها في عام 1940 تم إقامة معرض خاص بها، وبحلول عام 1942 كان الطلب يتزايد على لوحاتها وتمت طباعتها على بطاقات الأعياد والطوابع الأمريكية، الأمر الذي زاد في انتشارها وتضاعف عدد معجبيها.
عرضت لوحاتها في جميع أنحاء أمريكا وأوروبا سواءً بمعارض فردية أو جماعية، وكانت لوحاتها تباع بمبالغ كبيرة جداً، وأعلى مبيعاتها وصل إلى مبلغ 1.22 مليون دولار.
توفيت الجدة موسز في عام 1961 عن عمر ناهز الواحد بعد المائة مخلِّفةً وراءها إرثاً كبيراً من اللوحات " حوالي ألفين لوحة "، فقد كانت ذات إنتاج غزير ونشاط مذهل، ربما بذلك كانت تعوِّض عن السنين التي قضتها في عمل المزارع.
لوحاتها حاليَّاً معروضة في متاحف شهيرة في أنحاء العالم وقد نالت في حياتها عدَّة جوائز وحازت على عدَّة تكريمات، وكانت قد كتبت في عام 1952 قصة حياتها ونجاحها أوضحت فيه أن مشجعها الأول على الرسم هو والدها ..
هذه السيدة الريفية البسيطة والجدة التي تظهر الطيبة على وجهها لم تحترف الفن، بل اعتمدت فقط على موهبتها وطوَّرت نفسها بنفسها لتخبرنا أنَّ النجاح لا يحتاج دائماً إلى شهادات وخبرات، بل هو إرادة و تصميم؛ و رغبة
ختاما:
سن السادسة والسبعين ـ والذي بدأت فيه الجدة موسز مزاولة الرسم ـ بالنسبة للكثيرين ليس سن التقاعد عن العمل فحسب بل التقاعد عن الحياة برمَّتِها.
قصَّة نجاح الجدة موسز بصراحة ألهمتني شخصيَّاً وأيقظت بداخلي رغبة دفينة وهي احتراف الرسم والإبداع فيه. دراستي لمجال بعيد كل البعد عن الفن جعلني أهمل موهبتي تدريجيَّاً، بل لم أعد أرسم منذ سنوات كثيرة إلا ما ندر. لكن ما حدث مع موسز ولَّد فيَّ الأمل مجدداً وأنت أيضاً عزيزي القارئ لا تفقد الأمل، ولو كان لديك حلماً ما، لا تقل أنَّ الأوان قد فات على تحقيقه، فمن يعلم ما تخبئه الأيام لك فالحظ ليس بالضرورة أن يبتسم في أول عمرك، بل قد تكون ابتسامته مخبأة لك في مرحلة ما من حياتك لم تدركها بعد. صحيح أن لدينا مثلاً شهيراً يقول " كل شي بوقته حلو " لكن الإبداع والنجاح لا وقت ولا حدود لهما؛ هذا ما يجب أن تؤمن به."
هذه الحكاية تبين أن الشهرة والمجد يأتيان صدفة وبالطبع ما أتحدث عنه من مواهب ليس مجرد رسومات لا تفيد المجتمع أو موسيقى أو هبل مما يسمى فنون فالمواهب التي أريدها هي تلك المواهب المفيدة للمجتمع كموهبة الاختراع والابتكار لآلات أو بناء ما يعوض الناس الفقراء كمن يصنع الأثاث بواسطة حجارة يصنع منها أسرة ودواليب ومقاعد ومناضد وما شاكل أو يصنع أثاث أو أدوات مفيدة من أشياء بسيطة لا تكلف الناس إلا القليل كصناعة السلال من البوص أو من الحصر من نبات السمار وما شابه
إن المواهب المفيدة هي ما تفيد المجتمع حقا وصدقا وليس مجرد أوراق توين حوائط أو موسيقى تسمع أو تمثيل او ممارسة أمور غير مفيدة كما يقوم بالتصويب نحو ثقب إبرة وينجح مضيعا وقته وجهده فيما لا نفع من خلفه